باريس | إنه واحد من أكثر الكوميديين الساخرين في فرنسا تميزاً وموهبة، ومن أكثرهم اثارة للجدل أيضاً. ديودونيه مبالا مبالا (1966) الذي يحلّ على بيروت ليقدم الليلة وغداً عرضه «الوحش النجس» في «كازينو لبنان» (بدعوة من شركة Achillea)، يعاني، منذ سنوات، حصاراً سياسياً واعلامياً قاسياً في فرنسا.
وصل الأمر الى حد حظر عدد من حفلاته، الخريف الماضي، بقرار إداري غير مسبوق في «بلد فولتير»، أصدره (رئيس الحكومة الحالي) مانويل فالس، الذي كان آنذاك وزيراً للداخلية، لكن اكثر المتمسكين بحرية التعبير، ممن تعاطفوا مع «كولوش الأسود»، في البداية، ضد «الحملة المكارثية» التي استهدفته، بسبب اسكيتش تلفزيوني سخر فيه من المستوطنين الاسرائيليين، عام ٢٠٠٣، وعدّه بعضهم «معادياً للسامية»، سرعان ما انفضّوا من حوله تباعاً، بسبب انزلاقه تدريجاً نحو فخ اللاسامية والتحريفية وإنكار المحرقة.
وإذا بالفنان الملتزم، الذي انتزع الاعجاب بمواقفه المشرفة المدافعة عن حقوق المهاجرين العرب والسود في فرنسا، يستضيف على الركح، خلال أحد عروضه، عام ٢٠٠٥، زعيم «الجبهة الوطنية» العنصري جان ماري لوبان! ثم اجتاز خط اللارجعة، في العام الموالي، حين كرّم على خشبة مسرح La main d›or الذي يمتلكه في الدائرة الباريسية الثامنة عشرة، المؤرخ التحريفي روبير فوريسون، المعروف بنكرانه للمحرقة اليهودية. وإمعاناً في الاستفزاز، قرر منحه جائزة رمزية سلمها له شخص رجل متنكر بالزي المخطط بالأبيض والأسود الذي كان يرتديه اليهود المعتقلون في المعسكرات النازية!
يومها، تذرع ديودونيه بالدفاع عن مبدأ حرية التعبير «الذي يجب ألّا يحدهّ أي قيد او شرط»، مما فُهم منه أنه لا يقاسم فوريسون أطروحاته المقيتة، لكن آخر المدافعين عنه، أُسقط بأيديهم، على أثر شريط فيديو بُثّ على يوتيوب، ظهر فيه ديودونيه متحدثاً الى عدد من الصحافيين، على هامش عرض مسرحي قدمه في العاصمة الجزائرية، عام ٢٠٠٨، واصفاً المحرقة النازية بـ «البورنوغرافيا التاريخية»! تصريحات أدت الى ادانة القضاء الفرنسي إياه، وتغريمه ١٠ آلاف يورو.

يتحدر من تقليد الكوميديا السياسية الساخرة التي أسّسها تيري لو لورون
هذا ما أثبت ضده رسمياً تهمة «معاداة السامية»، التي كان خصومه يحاولون إلصاقها به منذ سنين، وبالتالي سهّل عليهم لاحقاً إحكام الحصار عليه. بالتالي، بات محظورا في وسائل الاعلام والمهرجانات الثقافية في فرنسا، ولم تعد اي قاعة فنية تجرؤ على احتضان عروضه...
تحت وطأة الحصار الإعلامي وحملات الشيطنة التي كان عرضة لها، على مدى عقد كامل من قبل التنظيمات الصهيونية المتشددة في فرنسا، وعلى رأسها «الاتحاد الصهيوني الفرنسي» الذي حاول منع بعض عروضه بالقوة، انساق ديودونيه الى كثير من الشطط اللفظي والمنزلقات الفكرية. عاملٌ شوّش على خطابه السياسي المناهض للعنصرية في فرنسا، وأساء الى مواقفه المنتصرة للقضايا العادلة عبر العالم، من تأييده التاريخي لحقوق الشعب الفلسطيني، ووقوفه في صف المقاومة في لبنان، الى مناهضته المستميتة للامبريالية البوشية ضد أفغانستان والعراق وإيران، ووريثتها الساركوزية في القارة السمراء...
المعارك السياسية الخاسرة التي خاضها والمواقف الاستفزازية المثيرة للجدل التي انساق اليها، مثّلت ايضاً إساءة فادحة الى مكانته الفنية. فهو يتحدر من تقليد عريق في الساحة المسرحية الفرنسية، يتمثّل في الكوميديا السياسية الساخرة، التي وضع أسسها تيري لو لورون (1952 ـــ 1986) وعرفت أوجها في النصف الثاني من السبعينات، مع ظهور فنانين مشاكسين، أمثال كولوش وغي بودوس وريمون ديفوس. استلهم هؤلاء من مسرح الـ«ستاند آب كوميدي» الأميركي منحاه المينيمالي، لكنهم استبدلوا الفكاهة الاجتماعية بالنقد السياسي اللاذع، ما أكسبهم شعبيةً كبيرة، وخصوصاً أنّ بروزهم تزامن مع التحولات السياسية الكبرى التي مهدت لوصول اليسار إلى الحكم، مع فوز فرنسوا ميتران بالرئاسة، في أيار (مايو) 1981.
مع مطلع التسعينات، شهد هذا «المسرح السياسي» بروز جيل جديد، كان من بين أقطابه ديودونيه، الذي لقّب آنذاك بـ«كولوش الأسود»، ورفيق دربه إيلي سيمون. هذان الفنانان اللذان تربّيا في أحياء الضواحي الباريسية، جعلا من محاربة العنصرية والتصدي لليمين المتطرّف في فرنسا التيمة الأثيرة في أعمالهما، وأشهرها «مغامرات إيلي وديودونيه» (1991)، و«حياة الوحوش، فكرة معينة عن فرنسا» (1993)، و«إيلي وديودونيه رهن الاعتقال» (1996). ولم يكن أحد يتصوّر آنذاك أن مواقف ديودونيه ستنقلب إلى النقيض، وسيصل به الأمر إلى درجة تأييد جان ماري لوبان رسمياً في انتخابات الرئاسة عام 2007!
انزلاق ديودونيه البطيء نحو الجحيم، بدأ في أواخر عام ٢٠٠٣، بحملة شرسة تعرض لها من «الاتحاد الصهيوني في فرنسا»، الذي دعا أنصاره لمنع عروض ديودونيه المسرحية بالقوة! في شباط (فبراير) 2004، تجمّع أكثر من 2000 شخص أمام صالة «الأولمبيا» في باريس، تضامناً مع ديودونيه، إثر منع عرض مسرحيته «عذراً يهودا» بالقوة، من قبل تنظيمات شبابية صهيونية متطرفة. آنذاك، كان بين المتظاهرين، انتصاراً لديودونيه ودفاعاً عن حرية التعبير، العديد من الفنانين ذوي الأصول اليهودية، من رفيق دربه السابق إيلي سيمون إلى الفكاهي المغربي الأصل جاد المليح، لكن منزلقاته المتتالية أفقدته مؤيديه في الوسط الفني وفي قوى اليسار الفرنسي التي خرج من معطفها، ليرتمي في احضان اليمين المتطرف.
أما اصل الخصومة بين «كولوش الأسود» والأوساط الصهيونية في فرنسا، فقد نشأت، قبل واقعة اسكتشه التلفزيوني الشهير. يرى بعض من كانوا مقربين منه سابقاً أنّ المنعطف الذي أدى الي انزلاقه نحو أطروحات إنكار المحرقة وفخّ اللاسامية المقيت، كان مردّه اعتراض من يسمّيهم «العناصر الصهيونية» في «المركز الوطني للسينما»، عام ٢٠٠١، على تمويل فيلمه «القانون الأسود» الذي يشتغل عليه منذ عقد عن تراجيديا الرق والعبودية. وفي مؤتمر صحافي عقده في طهران، خلال تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠، إثر لقائه الرئيس السابق أحمدي نجاد، أعلن ديودونيه أنه حصل من «مؤسسة السينما الإيرانية» على تمويل لإنجاز فيلمه بمواصفات إنتاجية تضاهي السينما الهوليوودية، التي قال إنّها تمثّل «الذراع الضاربة للصهيونية العالمية»، لكن السنوات مرت، من دون أن يرى ذلك المشروع النور...