«ليخرجن برفقة صاحباتهن وعشاقهن». هكذا تبدأ «المرثية» على قناة «الجديد» من دون أي موسيقى كلاسيكية في الخلفية. وهذا محزن فعلاً، أن لا يكون هناك سمفونية لائقة تحرّض على الألم في تقريرٍ عظيم أشبه بمرثية. هذه ملاحظة هامشية، عن تقرير راوند أبو خزام، الذي يحمل عنواناً هتشكوكياً: «من حاول قتل ماغي فرح؟». خلاصة التقرير أن ماغي فرح، التي اكتشفنا أنها تحتاج إلى ثلاث عاملات فيليبينات، كنّ يعملن في منزلها، تتهمهن بدسّ عقاقير وأدوية أعصاب لتنويمها، ويتبع ذلك سردية تستحق التدقيق والمعالجة من الناحية القانونية، خاصةً أن والدتها توفيت بطريقة ملتبسة. وبطبيعة الحال، لفرح الحق في قول ما تريد أن تقوله، ولها الحق أيضاً أن تنقل مشكلتها من القضاء إلى الإعلام. ليس لها الحق أن تحذر وتنبّه من الجاليات الأجنبية بأسرها طبعاً، لكن، كان يجب أن يخبرها أحد ما ذلك، في التقرير. فلنعد إلى بداية التقرير (عرض أول من أمس)، الذي تلمع فيه جملة أدبية ساحرة تقول: «ليخرجن برفقة صاحباتهن وعشاقهن». على هذا النحو، ومن دون أي زيادة أو نقصان، يصدر الحكم الذكوري، المختل على مقياس إعلامي، والمتماسك على معيار سوسيولوجي محافظ. لكن هذا الخطاب تلفزيوني، والتلفزيون ليس شارعاً أو زاروباً، التلفزيون أكثر من شاشة ملّونة. أكثر من معرض للابتسامات وقذف التعميمات. كليشيه ضروري هنا: هناك شيء اسمه «معايير مهنية»، إن كانت مفردة ضوابط تأخذ منحىً رقابياً غير محبب. المبحث الرئيسي هنا، ليس المجتمع المحافظ، ولا الشكل القانوني للسردية، المبحث الرئيسي هو الإعلام.
تقرير «من حاول قتل ماغي فرح؟» جافى كل المعايير الإعلامية

على جيش «المحافظين» أن يهدأ قليلاً. ربما حدثت جريمة بالمعنى القانوني للكلمة، لكن البحث في المسألة هو وظيفة القضاء لا وظيفة الإعلام. والإعلام ليس مصاباً بالزينوفوبيا، ولا مسايراً لها في هذه الحالة، ولا يمكن القول إنه في المقام الأول يحرّض على انتشارها، بل سيأتي هذا قطعاً في مرحلة لاحقة. بالدرجة الأولى، الإعلام الذي نتحدث عنه في هذه الحالة ليس إعلاماً. في المرحلة الأولى، اتخذ التقرير صفة الادعاء على العاملات الفيليبينيات. وهذه وظيفة القضاء. نتحدث عن اللغة والتحرير وصياغة التقرير الركيكة: «وأحاطتهن بالاهتمام والمحبّة، فكان ردّ الجميل لها...». ثم تجاوز التقرير الأطر القانونية مجدداً، بعرض صور العاملات والتشهير بهن. وللمرة الألف، يجب التأكيد أن هذا ليس مجرد «خطأ شائع»، إنما هو أكثر من ذلك بكثير، إنه مدخل أساسي لتفسير الخِفة الإعلامية التي تشتغل على قاعدة «الجمهور عايز كده»، ولا تحسب أي حساب للقانون، إن كنّا نتحدث عن تأطير قانوني غائب هو الآخر عن غالبية النقد.
التقرير التلفزيوني ليس مجرد كاميرا، وصور فوتوغرافية في الخلفية، ولقطات خاطفة لمعد التقرير وهو ينصت باهتمام إلى ضيفه «الكريم». في أقل تقدير، يجب أن يكون التقرير متماسكاً وباحثاً عن الحق، في صورته الإعلامية، وهي الحقيقة. لن نقول إننا رأينا زينوفوبيا وأثراً بالغاً للهيمنة الذكورية على روح التقرير، سنكتفي بالعرض البصري العادي بلا أي تفكيك. رأينا معدّة التقرير ورأينا ماغي فرح، وصور العاملات المتهمات في تجاوز فاضح للقانون. لم نر المحامي الذي سيدافع عن العاملات. لم نسمع وجهة نظر العاملات أو وجهة نظر أحد سيدافع عن العاملات عموماً، أو يحذر من مخاطر التنميط في حال ثبوت أي حكم قضائي رسمي. ثبت سلفاً لدى السيدتين راوند أبو خزام وماغي فرح. وهذه ليست مسائل ثانوية إطلاقاً، بل إنها استجابة الإعلام لآفات المجتمع والتناغم معها، بدلاً من الاستعاضة عنها بالمعايير. أما للمتحمسين للعقاب، أكثر من حماستهم لتصويب الخلل المنهجي في الإعلام الهش، فيمكن إحالتهم إلى ميشال فوكو، في معرض حديثه عن «ولادة السجن»: قبل كل شيء، يجب التخلص من وهم طويل يقول إن العقوبة هي أسلوب في قمع الجريمة، وإنها في وظيفتها هذه، وبحسب السائد من أنظمة سياسية وأيديولوجيات مغمسة بموروثات، يمكن أن تكون قاسية أو متساهلة، موجهة نحو «التكفير»، أو تكون بقصد الحصول على تعويض، أو تطبق على ملاحقة الأفراد أو على تعيين المسؤوليات الجماعية. العقوبة هي طمس لسبب الجريمة. وليس هذا دفاعاً عن العاملات، فليأخذ القضاء مجراه، القضاء هو القضاء، والإعلام هو الإعلام. وهذا دفاع عن الإعلام، ضدّ منتحل صفته وصفة القضاء، الذي يحقق ويستنبط من دستور الذكورة والمجتمع ثم يتهم ويصدر الأحكام، وكل ذلك في تقرير مدته دقيقتان. سجن لبنان ليس سجن فوكو. إنه سجن محصن ببنى ذكورية، وبسلوكيات وخطب تنفصل تدريجاً عن الزمن، وتمثل شكلاً مزدوجاً للرؤية «القضيبية النرجسية»، ولكوسمولوجيا المركزية الذكورية. كيف لا والعاملات «فعلن فعلتهن» لكي يخرجن مع عشاقهن؟!