عام 1931، كتب الروائي البريطاني ألدوس هكسلي (1894 ــــ 1963) روايته/ نبوءته شديدة الإحباط «عالم جديد شجاع» New Brave World عن شكل مستقبل البشري، أي قبل حوالى 85 عاماً من اليوم. رغم أن أجواء الحرب الباردة دفعت بأعمال جورج أورويل التنبؤية إلى الواجهة لما فيها من نقد صريح للستالينية، إلا أنّ أعمال هكسلي التي أهملت طويلاً، تبدو الآن كأنها عمل شديد المعاصرة يتفوق فكرياً بمراحل على كوابيس أورويل في دقة وصفها لما أخذتنا الرأسمالية إليه فعلاً في القرن الحادي والعشرين.
النخبة المهيمنة لن تحتاج إلى «الأخ الأكبر»، فالمنظومة الاستهلاكية ستجعلنا نتقبل الهيمنة برضى!
ترقب العالم الغربي - الأنغلوساكسوني بالذات - عام ١٩٨٤ على نحو خاص. كان نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربية قد تكرس بعد الانتصار الأميركي الساحق على الفاشية في الحرب العالمية الثانية وحصار الاتحاد السوفياتي والتجارب الشيوعية في أكثر من مكان، فبدا كأن نهاية التاريخ وانتصار النموذج الرأسمالي الأميركي النهائي قد أزفّا فعلاً. لقد كان وقتاً للاحتفال بفشل نبوءة إريك بلير - المعروف أدبياً بجورج أورويل - في روايته المعروفة «١٩٨٤» التي تنبأ فيها بقيام فاشية قمعية عالمية، يخضع فيها الجميع لحكم «الأخ الأكبر».
كانت أعمال بلير - أو أورويل إذا شئت - المتخمة بكوابيس سياسية واجتماعية شديدة القتامة، هي بالذات نوعية الأعمال الروائية المثالية التي كانت تحبّذها وكالة الاستخبارات الأميركية في إطار حملتها للحرب الثقافية الباردة ضد الشيوعية واليسار بعد الحرب الكبرى. ولذا، فإن رواية «١٩٨٤» (وغيرها من أعمال بلير كـ «مزرعة الحيوانات») انتشرت بشكل عجيب عبر العالم، وترجمت إلى اللغات الحيّة جميعها تقريباً، وكتبت عنها آلاف المقالات في كل صحف ومجلات العالم الغربي (الحر)، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية في العالم الغربي، وثقافة النخب في دول العالم الثالث. لقد كان ١٩٨٤ كابوساً وانقضى. ولو كان الاتحاد السوفياتي قرّب موعد سقوطه ثماني سنوات فقط، لكان عام ١٩٨٤ تحول رمزياً إلى العام الذي تم فيه دفن نبوءة بلير إلى الأبد.
هذه الهمروجة الأميركية حول رواية بلير، أنست العالم النبوءة الأشد قتامة، الأقدم قليلاً، عن مستقبل الحياة البشرية التي كتبها أستاذ بلير وربما أهم روائي إنكليزي في العصر الحديث: إلدوس هكسلي في روايته الرؤيوية «عالم جديد شجاع» التي يحتفل العالم هذا العام بمرور ٨٥ عاماً على كتابتها.
ولد هكسلي عام ١٨٩٤ في جنوب لندن من عائلة كلها متفوقون وعباقرة في ما يبدو. عمل صحافياً وكتب مقالات عن كل شيء، لكن سمعته الأدبية تأسست منذ نشر روايته الأولى «أصفر كروميّ» (١٩٢١). أعماله اللاحقة اعتبرت أفضل صورة اجتماعية عن حياة النخبة البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يهجر بريطانيا إلى إيطاليا وبعدها في ١٩٣٧ إلى أميركا. روايته الأهم «عالم جديد شجاع» ومجموعة الروايات التي تلتها، كانت نتيجة أجواء الاكتئاب التي ألمت بهكسلي والعالم في فترة ما بعد الكساد الكبير، صعوداً نحو الحرب العالمية الثانية والمذبحة البشعة التي جعلها التقدم التكنولوجي ممكنة. في أميركا، كتب هكسلي لهوليوود، لكنه فقد الإيمان بالعقل واندفع إلى عالم المخدرات ومواد الهلوسة، وترك كتباً وروايات عدة عن أجواء حالته الذهنية وقتها قبل أن يموت في كاليفورنيا عام ١٩٦٣.
تنبأ بظواهر العصر الجديد كلها: العولمة وسيطرة الشاشات وتسليع الجنس وتحكم الإعلان بالعقول وتلفزيون الواقع، وانتشار أدوات التواصل الاجتماعي

قيمة رواية «عالم جديد شجاع» الفكرية أهم بكثير من قيمتها الأدبية. هي قدمت تصوراً مبكراً - أثبتت الأيام صوابه - لمآلات التقدم الرأسمالي للبشرية في أجواء الثلاثينات العاصفة، ومثّلت لجيل جديد من المثقفين الأوروبيين بين الحربين العالميتين نصاً ـ نادراً من خارج أجواء اليسار المغضوب عليه - في نقد هيمنة النخبة، التي ستمكنها تطورات التكنولوجيا الحديثة من استعباد الكتل الشعبية بأساليب شديدة الدهاء تجعل من المستعبَدين قانعين وراضين عن استعبادهم. ورغم أن هكسلي هو بشكل ما ابن النخبة البريطانية والغربية، إلا أنه كان معنياً على نحو مهووس بصوت الذين لا صوت لهم في مواجهة تغوّل النخبة. روايته عن عالم جديد شجاع تصور مستقبلاً تتحكم فيه نخبة - مسلحة بأدوات التكنولوجيا - بالأغلبية من المستهلكين ذوي الدخل القليل. هو تنبأ بظواهر العصر الجديد كلها: العولمة والهندسة الاجتماعية، وسيطرة الشاشات وتسليع الجنس وتحكم الإعلان بالعقول وتلفزيون الواقع، وانتشار أدوات التواصل الاجتماعي والتلاعب بالجينات، وإدمان العقاقير المتقدمة، وفساد الشركات الكبرى وحتى ألعاب القمار والمراهنات واليانصيب، بل أيضاً الإزعاج الدائم والأصوات العالية. عالم هكسلي عالمٌ يعتقد فيه الناس أنهم سعداء لأنهم يحصلون على المنتجات والجنس والمشاعر من دون كثير عناء، وهم لم يعودوا بحاجة إلى أفكار ثورية أو أديان أو حتى عائلات كي يتدبروا أمور سعادتهم في الدولة المعولمة العظيمة.
حتى بين المثقفين، هناك من يعتقد أن نبوءتي بلير وهكسلي متكاملتان: بلير يصف الشكل السياسي لمستقبل البشرية، بينما هكسلي يرسم صورة الشكل الاجتماعي لهذا المستقبل. لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. في روايته «١٩٨٤»، يتحدث بلير عن سلطة غاشمة، فاشية عسكريّة هرمية يتربع على قمتها أخ أكبر، تمارس قمعاً شديداً بالإفادة من أدوات التمكين التكنولوجي والبروباغندا الايديولوجية لتسلب البشر حريتهم وإمكاناتهم، بل سيرتهم التاريخية. نبوءة هكسلي تقول إنّ النخبة المهيمنة لن تكون بحاجة إلى «الأخ الأكبر»، بل إن المنظومة الاستهلاكية التي ستبدعها ستجعلنا - نحن الكتل الشعبية - نتقبل الهيمنة برضى وأننا سنحب أدوات التكنولوجيا الحديثة التي ستجعلنا نستغني عن كل حاجة للتفكير. افترض بلير في «١٩٨٤» أنّ الطغمة الحاكمة ستمنع الكتب مثلاً بوصفها مصدراً للأفكار الخطرة. هكسلي في عالمه الجديد الشجاع، يقول لنا إنّ النخبة ستفسد فكرة الكتب ذاتها على نحو لا تعود معه الطبقة العاملة ترغب في القراءة أصلاً. بلير يخوفنا من عالم يصبح فيه الوصول إلى المعلومات امتيازاً طبقياً، في حين أنه في عالم هكسلي فإن المهيمنين سيوفرون كمية هائلة من المعلومات بحيث لا يعُد من الممكن الإفادة منها بأي شكل، وتدفع بالناس إلى السلبية والانعزال والتوحد مع شاشاتهم. عند بلير، الحقيقة مخفاة بعناية عنا، بينما عند هكسلي فإن الحقائق جميعاً تغرق في بحر من اللامعنى والتناقض والتجزؤ وانعدام الصلة بالواقع: «ستعرفون الحقيقة، والحقيقة ستصيبكم بالجنون». بلير حذرنا من مجتمع مقهور محاصر، بينما كشف لنا هكسلي عن مجتمع يعيش وهم الحرية والانفتاح والفردانية والانعكاس الداخلي والتلهي بالتوافه والتهتك الجنسي من دون مشاعر إنسانية حقيقية. عند بلير السيطرة على الكتل البشرية تتم من خلال إيقاع (أو التهديد بإيقاع) الألم. هكسلي يقول إنّ السيطرة على البشر ستكون من خلال منحهم اللذة! بلير يخوفنا من الكراهية، وهكسلي يرعبنا من تفّشي الحب - بشكله الإباحي الأقصى – الـ «أورجي بورجي».
عالم هكسلي إذاً نقيض تام لعالم بلير، لكنه يتطابق حد الخرافة مع تطورات العالم المعاصر، حتى إنّك تتساءل فيما إذا كان هكسلي كتب عن عالمه قبل ٨٥ عاماً فعلاً أم أنه كاتب معاصر يعيش على تخوم الـ «سيليكون فالي»، ويقرأ لنا ما يراه أمام عينيه اليوم. لكن بالتأكيد، فإن ثقافة الحرب الباردة المؤدلجة لم تكن لتجد في رؤية هكسلي ما يمكن توظيفه في نقد التجارب الشيوعية (الستالينية والماوية لنكن دقيقين)، وهكذا رفعت من شأن بلير - خادم الإمبراطورية الأمين وألقت بهكسلي إلى العتمة. العالم الجديد الشجاع كأنه هنا. لقد عرفنا الحقيقة يا هكسلي، وها نحن - كما قلت لنا - نصاب بالجنون.