تخيل فيلم تشويق بطلاه رجلان في الثمانين من العمر، أحدهما يعيش على آلة للأوكسجين، والآخر يعاني من الألزهايمر والنسيان، يخططان لقتل أحد القادة النازيين السابقين في معسكر أوشفيتز؟ قصة يصعب تخيلها، بخاصة ضمن إطار من التشويق. لكن السينمائي الكندي أتوم إيغويان (1960) يقدم طرحاً استثنائياً في فيلمه «تذكّر» (2015) يختلف جذرياً عما قد يتوقعه المشاهد من فيلم يعالج ثيمات بهذا الثقل الدرامي. أتوم إيغويان، المخرج الكندي من أصول أرمنية مصرية، أنجز أعمالاً مهمة أبرزها «أكزوتيكا» (1994)، وthe sweet hereafter الذي حاز الجائزة الكبرى في «مهرجان كان السينمائي» عام 1997، كما رشِّح لجائزتي أوسكار. أضف إلى ذلك فيلمه «كلوي» (2009) الذي حظي بحفاوة جماهيرية. فيلمه الجديد «تذكّر» الذي يعرض حالياً في الصالات اللبنانية، لا ينتمي إلى الكوميديا، لكنه ساخر في نمط التشويق نفسه الذي يتبناه، ومن الدراما والكوميديا ولا معقولية الحياة نفسها التي قد تتجاور فيها كل هذه الأنماط جنباً إلى جنب وفي اللحظة ذاتها. عبر حساسية التفاصيل التي يرصدها، يلمس الشريط درجة موجعة من الانفعال لدى المشاهد، وأيضاً محيّرة إلى درجة يراوح شعوره بين الرغبة في الضحك والبكاء في آن معاً. البطل "زف" الذي يلعب دوره الممثل الثمانيني كريستوف بلامر، يتعرّف في دار المسنين في نيويورك إلى «ماكس» الناجي مثله من معسكر أوشفيتز حيث تمت عمليات تعذيب وإبادة اليهود في ألمانيا النازية تحت حكم هتلر. يخبره «ماكس» (الممثل مارتن لوندو) أنّ قاتل عائلتهما المشترك أوتو فاليش، أحد القادة النازيين السابقين في معسكر أوشفيتز، فرّ إلى أميركا ولما يزل يعيش فيها حتى الآن، متخفياً تحت اسم «رودي كورلندر» الذي أخذه من أحد ضحاياه اليهود. يحثّ «ماكس» صديقه على مغادرة الدار للبحث عن رودي وقتله، بما أن ماكس الذي يعيش على آلة الأوكسجين لا يستطيع القيام بذلك بنفسه.
يلمس الشريط درجة موجعة من الانفعال لدى المشاهد

بخطاه البطيئة، يذهب «زف» لتنفيذ المهمة متبعاً تعليمات ماكس، الرأس المخطط من مقره في دار المسنين، باستثناء أنّ هنالك أربعة «رودي كورلندر» عثر عليهما ماكس، ويجب على «زف» أن يزورهم واحداً تلو الآخر ليتحقق من القاتل الحقيقي. المشكلة الأخرى التي تعترض «زف» في مهمته هي مشكلة النسيان التي يعاني منها. يرصدها المخرج عبر تفاصيل تأتي فجأة لتقتطع إيقاع التشويق المتصاعد كما على سبيل المثال حين يدخل «زف» لشراء مسدس، ويطلب من البائع أن يكتب له تعليمات استخدامه على الورقة كي لا ينسى. ينجح «زف» في الوصول إلى عنوان أول «رودي كورلندر» مشتبه به. يدخل بكل هدوء كمن يمر على إلقاء التحية، ثم بعد أن يتأكد من الاسم، يشهر مسدسه صوبه بالهدوء ذاته الذي يتسم به. يأمره أن يقف قرب الضوء كي يتأكد من وجهه الذي لم يره منذ أكثر من ستين عاماً. لكن لسوء حظه، يتضح له بالوثائق أنّ الرجل لم يكن في أوشفيتز على الرغم من أنّه كان نازياً خدم في الجيش. يرحل «زف» ليواصل بحثه، ومعه حقيبة اليد الصغيرة التي يحملها أينما ذهب وفيها المسدس بدون أي محاولة لإخفائه. يصل زف إلى «رودي كورلندر» المشتبه به الثاني الذي يجده في أحد المستشفيات. بعد إلقاء التحية، يسأله إن كان في أوشفيتز، فيجيب كورلندر بالإيجاب، فيشهر مسدسه صوبه. لكن بعد اقترابه منه ورؤية الوشم على يده، يكتشف أنّ الرجل كان يقصد أنه كان معتقلاً أيضاً في أوشفيتز لأنّه مثلي الجنس، فينصرف "زف" إلى مواساته بدلاً من قتله. يستمر «زف» في ملاحقة أشباح «رودي كورلندر» المشتبه بهم، فيما يطارده شبح زوجته التي يخيّل له كل حين أنّها لا تزال على قيد الحياة. يعيش زف في صراع مع النسيان ومع الموت الذي يهدد أيضاً بأخذ القاتل قبل الوصول إليه. تبقى ضمانته الوحيدة لعدم نسيان مهمته، الرسالة التي يحملها في جيبه من «ماكس» ويذكّره فيها بهويته ومهمته وموت زوجته. تلك الرسالة تعثر عليه فتاة صغيرة وتقرأها في مشهد بالغ الجمال في سرده. من خلال اللغة السينمائية، ندخل في جلد شخصية «زف»، في خطاه، وإيقاعه الخاص الذي يصطدم بإيقاع العالم الخارجي الأكثر سرعة وميكانيكية أو في ضياعه الذهني، عبر تفاصيل معبرة سواء في الحوار أو في اللغة السينمائية. على سبيل المثال، نشاهد حواره المتكرر مع موظفة الاستقبال في كل مرة يدخل فندقاً: «اذهب يميناً، ثم شمالاً ثم يميناً ثم شمالاً...» فيما هو ينظر إليها بذهول تام، إلى أن تستوعب الموقف وتقرر مرافقته. إرشادات لتعقيدها ليس بإمكان أحد استيعابها، أو أيضاً في لقطة أخرى استثنائية بأسلوب تصويرها، يقترب «زف» من حائط زجاجي وفي داخله ما هو أشبه بشلال، فيحاول لمس الماء، أو مشهد المواجهة بينه وبين إبن "رودي كورلندر" المشتبه به الثالث ودخوله تحت الدوش بملابسه بعدما تبول على نفسه من الخوف بسبب تهجّم ابن كورلندر عليه. بالرغم من قسوة المشاهد، إلا أنّ هنالك مقاومة مذهلة تعكسها شخصية «زف» الذي يؤدي دوره الممثل كريستوف بلامر في أداء رائع. كيف لشخص أن يستمر بلا ذاكرة؟ عمن بحث فعلاً: عن القاتل أو عن نفسه؟ أو هل يمكن أن يستعير ذاكرة شخص آخر؟ كل تلك الأسئلة يطرحها الفيلم. في المشهد الأخير، يعثر "زف" على القاتل الحقيقي الذي يقوده إلى ذاته واكتشاف من هو فعلاً. الضربة النهائية للمخرج غير متوقعة، تعيد سرد كل الفيلم من وجهة نظر مختلفة كلياً.

* «تذكّر»: «غراند سينما» (01/209109)، «متروبوليس أمبير صوفيل» (01/204080)