في فيلمها الوثائقي «تلفزيون وائع» (52 د) الذي عرض قبل أيام في «الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت»، تستعيد مايا مجذوب تاريخ المحطات التلفزيونية في لبنان، وكيف يتلاقى مع تاريخ الحرب الأهلية وانتهائها، عارضةً الانقسام والتجييش الطائفي الذي يروّج له عبر أثيرها زعماء الحرب أنفسهم الذين تقاسموا السلطة وغيرهم بالطبع ممن انضمّ لاحقاً إلى الرحب. تاريخ التلفزيون يبدأ مع «تلفزيون لبنان»، وكل المراحل التي مرت بها هذه المحطة، والتنازع الذي جرى حولها، مما يبدو أشبه بخطة ممنهجة لتدميرها، وتدمير أي صوت أو وسيلة إعلامية قد تمثل ولو حتى ظاهرياً صورة للبنان الموحد، حتى وصلت إلى حالها المعدوم اليوم.
المحطات التلفزيونية تعبّر عن التركيبة اللبنانية وتناقضاتها
بعد انتهاء الحرب، جاء القرار بتنظيم وسائل الإعلام بهدف القضاء على الفوضى كما روج له. لكنّ الهدف منه لم يكن سوى توزيع حصص الإعلام المرئي بالتوازي بين زعماء الطوائف، والتخلص من كل من بات خارج التقسيم الجديد. من خلال الأرشيف المصور لكل المحطات، توثق المخرجة بحثها عارضة تاريخ كل محطة، ومنهجيتها المتبعة بحسب ولائها الطائفي. والطرافة أنّ بإمكان أي تلفزيون أن يتحوّل بطريقة فجائية ويستبدل الخطاب السياسي بآخر مغاير بحسب النزاعات السياسية الحاصلة أو دخول ممول جديد على الخط. عالم التلفزيون كما تعرضه المخرجة معبّر جداً عن التركيبة اللبنانية والتناقضات الكامنة فيها. ترصد مجذوب بدقة الشرخ بين الخطاب العلني أو الظاهري للزعيم الفلاني، والخطاب الفعلي الذي يروّج له عبر محطته التلفزيونية. من «المستقبل»، إلى lbci أو NBN أو MTV، تشرح المخرجة الخطاب السياسي الطائفي أو العقائدي كما في حال "المنار"، الذي تروّج له هذه المحطات، والحروب التي تخوضها بعضها مع بعض. قد تبدو قناة "الجديد" من هذه الزاوية أقلهم طائفيةً، كما تستعرض المخرجة، ولو أنها تخضع ولو جزئياً لتأثيرات من مصادر التمويل التي تتلقاها، وتبتعد عن الاحترافية في النبرة الهجومية التي تتبناها في مقدمات نشرات الأخبار بحسب الفيلم. هذا بالإضافة إلى الحروب الداخلية التي تنشأ في محطات التلفزيون والضغوط التي يتعرض لها العاملون فيها للترويج للخطاب السياسي المطلوب منهم أو يتعرضون للطرد التعسفي. بالرغم من ذلك، تتلاقى معظم هذه المحطات غالباً حول شيء مشترك هو كم الابتذال المجاني الذي نراه في برامج الترفيه الاستعراضية أو الكوميدية، حيث الجنس هو المحور في الغالب أو بالأحرى الإيحاء به. تكتيك سهل لاستقطاب المشاهدين في مجتمعات لمّا يزل فيها الجنس أداةً للقمع الذاتي، مع استثناء «المنار» بالطبع. ضمن خطابها العقائدي الذي تصاعدت وتيرته في السنوات الأخيرة، تبدو صورة المرأة المسلمة المحجبة هي الوحيدة المعترف بها، حتى ذكر المرأة السافرة يتم تجنبه كما في حادثة وفاة الفنانة صباح. وثائقي «تلفزيون وائع» هو رحلة مهمة في توثيقها لمؤسسات الإعلام المرئي في لبنان وآلية عملها. رحلة لا تخلو من الطرافة أيضاً عبر اللقطات التي تنتقيها المخرجة بدقة، كاشفة عن الثغَر ضمن الخطاب السياسي الذي تروج له هذه المؤسسات، ومحفزاته ودوافعه.