نشوة الانتقام
«في لعبة العروش، إما أن تفوز أو تموت، ليس هناك من حلٍّ وسط». سيرسي لانستر مخاطبةً وصي العرش نيد ستارك المحترم (الحلقة السابعة من الموسم الأول).
ليَفنى عدوي، ويُنثر غباراً. لتُمحى أجساد المتآمرين والمذنبين بنظري. لتترمّد أصابع الاتهام في قاعة المحاكمة، وتندثر السلطة الدينية المتشددة. سأشرب نخب الانتقام. حُكميَ الوحيد سيُنفّذ اليوم. سأخلع فستاني الحريري، وسأرتدي درعاً. اليوم، أتربع على العرش الحديدي.
مخطئٌ كل من رأى بهدوء سيرسي لانستر ضعفاً أو هوان. عاشت الملكة الأم طويلاً في البلاط الملكي، وقطعت أشواطاً في ملاعب السياسة، وحبّ البقاء. لها من الذكاء، والغرور، والحقد، ما يكفي لحياكة الانتقام المثالي. عارٌ على الـ«هاي سبارو»، وجنوده انتظارها في قاعة المحاكمة، وترقّب وصولها. لن تدخل سيرسي ضعيفةً مستسلمة. هي ماكرة، لن تُهان مجدداً. وإن كان الطريق الوحيد لعودتها إلى البلاط الملكي هو مسيرة العار، فلكلّ من سمح بتعريتها وإذلالها عواقب وخيمة. هي ابنة والدها. لطالما كان خيارها الأول العنف. لَك أن تكون من مؤيدي آل «لانستر» أو من معارضيهم. لا بأس، لكن، عليك التسليم أن الانتقام المثالي، الذي حبكته سيرسي ولّد رضىً غير مسبوق. إنها إحدى المرات القليلة التي يتم فيها انتصار الضحية على جلّاديها. مشهد فناء أعداء سيرسي تحت سقف واحد بنيرانها الغاضبة دفعني لمباركة قدرة هذه المرأة المتسلطة القاسية على الثأر وحصد الآلام.
«أقسم لك أن الجلوس على العرش أصعب بألف مرة من الحصول عليه» - روبرت بوراثيان

قطعت موسماً كاملاً بحثاً عما يجول في خاطرها من سيناريوهات، بحثاً عمن تراقب. ماذا تستمع؟ وبماذا تتأمل؟ أي شيطان في داخلها يبقيها ساكنة هادئة؟ كيف سيتفجّر هذا البركان في وجه أعدائها الكثر؟ كانت الإجابة شافية.
منذ الحلقات الأولى، تشرّبت كره سيرسي، بتجسيدها للظلم والأنانية. تقوم بما تشاء، وقتما تشاء، ومهما كان الثمن. تحكم بالترهيب والقوة. لا عجب من قلة المتعاطفين معها. إلا أنه في لحظات الضعف تتجلى طينة الإنسان.
«ليانا». هكذا همس الملك روبرت باراثيون، في أذن العروس سيرسي في ليلتهما الأولى، هكذا كانت بداية الحياة الزوجية والحب والشراكة مدى الحياة. كيف يمكن لأيّة امرأة أن تتابع مسار حياتها الزوجية بعد هكذا «حادثة»؟ لا يمكن. لنتخيّل إذاً إن كانت هذه المرأة بكبرياء سيرسي لانستر، وإن كنا نتفق على صفات معينة فيها، لا بد أن يكون الكبرياء إحداها.
تلى ذلك وفاة ابنهما الأول، بسبب الحمى، وهو لا يزال جنيناً. لم يكن الولد الوحيد الذي خسرته سيرسي قسراً، جوفري البكر قُتل مسموماً بين يديها خلال فترة حكمه. لسنا حزانى على وفاة جوفري، الذي لا يعرف قلبه الرحمة ولا عقله الوعي، لكنّنا نرى الموت من منظار الوالدة، التي سترى فيه دوماً طفلها. كان مشهداً لا ينسى، صراخها وحيدة ساجدة تنظر بضعف دون حيلة إلى وجه ولدها الأزرق، وحشد المتفرجين (يُرجّح أن تكون الوحيدة التي حزنت لمقتله).
ثمّ ابنتها الوحيدة مارسيلا، التي فارقت الحياة في طريقها إلى الكينغز لاندينغ. كانت أمل سيرسي في الحب، والصبر، والأمل. انتظار عودتها كان السبب الوحيد المتبقي للفرح، بعد مسيرة العار والذّل.
صدقت الرؤية القديمة ومات أطفال سيرسي جميعاً. انتحر تومن بعد احتراق قاعة المحكمة بمن فيها (ومن بينهم حبيبته مارغري اللعوب). فسيرسي صاحبة مقولة «الحب ضعفٌ، لا تحبي سوى أطفالكِ» (محدّثة سانسا ستارك، الحلقة السابعة من الموسم الثاني)، خسرت أطفالها كلهم. لن يكسر قلبها شيء بعد الآن. هي، كالعرش الذي تعتليه، باردة قاسية داكنة.

لم تكن وحدها تحت لعنة الحب

الحب لم يضعف سيرسي وحدها، يقابلها في نقطة الضعف هذه «خال» دروغو، من إيسوس.
القائد الدوثراكي الأسمر، ذو البنية الضخمة، والجدائل الداكنة، والعيون الشرسة، الأسطوري الذي لم يخسر معركة، ولم يُنزله عن سرج حصانه عدو. أسد الصحارى أُغرم بالشقراء دينيرس تارغاريان، التي بيعت له أولاً. أحبها لجرأتها حين واجهته وأتقنت لغته، وحين التهمت قلب الحصان تنفيذاً لتقاليده الدموية. وزاده هياماً حملها بجنينه، فوعدها باجتياز الـ«نارو سي» (البحر الضيق)، واعتلاء العرش الحديدي.
لم يشكّل مع دينيريس ثنائياً عادياً. ولم تكن بداية زواجهما شبيهة بحكايا الخيال. أجبرها على مشاركته الفراش، والانصياع لما تومِئ به نظرته، وصوته الذي يشبه الزئير إلى حد كبير. بغضته وتمنت هلاكه، طبعاً. اختلف الوضع لاحقاً، خلال أحاديثها مع خدمها، وروّضته كما يُروّض الحصان الجامح.
قاتلٌ هو الرجل الذي لا يهاب، ولا يخسر، ولا يلين، حين يتحول، للمرة الأولى، إلى منصتٍ متلقٍّ خاضعٍ لذبذبات أنثوية خفية.
قصة حب «الجميلة والوحش» لم تختم بالسعادة. بعد أن قتل دروغو الفارس ماغو وهزمه، جُرح «الخال» جرحاً سطحياً في صدره. الجرح كان أسوأ مما احتسبنا. وَثِق دروغو بحسنائه، وأوكلها إيجاد العلاج.
«القائد الذي لا يمتطي حصاناً، لا يصلح للقيادة»، هكذا هي الفلسفة الدوثراكية. إلا أن شخصية «كاليسي» لم تسمح بخسارة زوجها الزعامة (أقلّه حتى لحظات حياته الأخيرة).
راهنت دينيرس على قدرة ساحرة غريبة، مشعوذة لعلاج «شمس نجومها». وخسرت الرهان فكان هلاك «الخال» على يد «قمر حياته»...
خسر دروغو معركته مع السحر، أقلّه إلى أن «تشرق الشمس من الغرب وتغرب في الشرق، لحين تجف البحار وتتفتت الجبال كالأوراق. لحين أحمل بطفل حي، مرة أخرى. حينها فقط ستعود، يا شمس نجومي، وليس قبل». هكذا تقول التعويذة، وهكذا تكررها دينيريس وتحلم بلقاء قمرها ونجومها.
صدمة تلو الأخرى. مقتل وإعدام، هكذا كانت وتيرة أحداث المسلسل. رغم ذلك، نحن لم نبصر القتل والقسوة فحسب، بل رأينا كذلك زوبعة حب فتّاكة. لم يكسر قلب سيرسي سوى حبها لأطفالها، ولم يخسر دروغو معركةً، سوى معركة الحب، سحراً.
ومنهم من قتله الحب في أوج «صراع العروش»...