فارتان أفاكيان يطارد الخلود في «مبنى بركات»

  • 0
  • ض
  • ض

مع تطور أعمال ترميم «مبنى بركات» لجعله معلماً تذكارياً للعاصمة اللبنانية تحت اسم «بيت بيروت»، تكاد حيوات سكان المبنى تنحصر في الأحاديث المكتوبة أو المتناقلة شفهياً. قد تستثير الأغراض المتبقية والجدران أيضاً صوراً متخيلة عنهم، فيما تبقى فجوات وثقوب المبنى الشاهد على يوميات القناصة الذين جاؤوا إليه يوماً طمعاً بلقاء المدينة بكاملها. في معرضه «هباء منثور»، يقف فارتان أفاكيان (1977) على المفترق الأول لحفظ ذاكرة هذا الصرح. يدير الفنان اللبناني ظهره إلى النقاش حول أهمية الحفاظ على هيكل المبنى الخارجي ورمزيته العمرانية. يكاد طرحه الفني في المعرض يخلو من هذه العناصر. كان عليه أن يبحث عن الذاكرة في مكان آخر، أن ينصرف إلى التنقيب عما تقتضي عملية الترميم ازاحته في الدرجة الأولى. انطلاقاً من السؤال التالي: «من أين يكتسب أي صرح أو معلم تذكاري قيمته؟»، يستعير أفاكيان عادة تقفي الأثر من العرب القدامى، ليقارب ذاكرة المكان من منطلق مادي. بعدما عمل على «برج خليفة» في دبي، و«قصر العلوم والثقافة» هدية ستالين إلى البولنديين في وارسو، ها هو يختار «مبنى بركات». يبدو فارتان مأخوذاً بالثقل السردي والنشاط الحي الذي يحتويه المكان من خلال آثار السكان وقناصة الميليشيا الذين توالوا عليه في حقبات مختلفة. تتوزع في الصالة الأولى من غاليري «مرفأ» 12 صورة تشكل القسم الأول من المعرض الذي افتتحت به الغاليري أبوابها الشهر الماضي. في الصور، تنتشر حبيبات فضية مبعثرة على خلفيات سوداء. النتيجة البصرية لا تتخذ شكلاً محدداً، بل هي أقرب إلى لقطات المجموعات النجمية. جمعَ هذه الجزيئات الفضية التي سقطت مع الزمن عن ركام أفلام نيغاتيف وجدت داخل حاويات في استديو تصوير مجهول في المبنى. وبعد فصلها عن الغبار، طبع هذه الجزيئات الفضية معيداً تشكيل صوراً جديدة، تستدعي آثاراً مادية من تلك الأصلية.

يمزج بين الحنين كفعل شاعري مطلق، وبين ومادية الذاكرة
هكذا يوظف «الحطام البيولوجي» ومعلوماته، وفق تسميته، لحفظ وجوه مرتادي الاستديو، فيما تتزاحم خلف تجريدية الصور ملامح آلاف الزوار. أما الأحجام الكبيرة للصور، فهي ليست سوى تضخيم لنتف حية هي جزء من منظومة الغبار والغاز الكبرى، لكنها ضائعة في هول النصب التذكارية الكبيرة. في الجزء الثاني من المعرض، يطارد أفاكيان الهباء ويستجمعه. رغم ما تحمله هذا الجملة من دلائل وإحالات عبثية، إلا أن النتيجة البصرية تقضي فوراً عليها. يترجم ذلك فعلياً من خلال مجموعة تضم 15 قطعة من الكريستال الملون. في هذا الجزء، أخضع أفاكيان الغبار الذي جمع من المبنى إلى عملية كيميائية داخل مختبرات متخصصة، لتخرج نتائجها على شكل كريستال، بأحجام مختلفة وبألوان الأحمر والبنفسجي والنيلي والأبيض، حددت شكلها الخارجي مواد الغبار وقابليته الطبيعية للتحول. مطاردة الخلود، لعله التوصيف الأقرب للهواجس التي تحوم حول "هباء منثور". يمزج أفاكيان بين الحنين كفعل شاعري مطلق، وبين جمود العملية الكيميائية ومادية الذاكرة، للقبض على الأثر البشري ومخلفاته البيولوجية كالشعر المتساقط، وإفرازات الجلد، والدم والدموع. لا يعود الغبار أسير طبيعته المادية (رغم أنها ركيزة أساسية لإعادة بنائه) فقط، بل يصبح هو العلاقة الحميمة الخفية بين الناس والأشياء وبين الأجساد والأمكنة. هو ذكراهم لمواجهة الفناء، ووعاء حيواتهم المادي، بقابلية لفك شيفراته من قبل علماء المستقبل. ومقابل الهيكل الخارجي الصلف للصروح، لا يندمل الأثر. ولا الرسم يختفي مقابل الدار نفسه، بالاستناد إلى بيت شعر للمتنبي يتضمنه كتالوغ المعرض «قل لمن يبكي على رسم درس/ واقفاً ما ضر لو كان جلس؟». في مكان ما، يتجاوز المعرض الطرح الأركيولوجي المجرّد للفنان. هناك مسافة نقدية من بيروت نفسها تسعى إلى تجريد العقارات من قيمة ترزح بين الاستثمارات والمضاربات الوحشية. يطل "هباء منثور" على عدد من الإشكاليات والطروحات لن يكون آخرها ما سيتطرق إليه أفاكيان، وغالية سعداوي وفارس شلبي في الحلقة النقاشية التي تقيمها «غاليري المرفأ» عند السابعة والنصف من مساء الأربعاء 9 كانون الأول (ديسمبر). «هباء منثور»: حتى 12 كانون الأول (ديسمبر) ــ «غاليري مرفأ» (مرفأ بيروت). للاستعلام: 01/571636

  • من المعرض

    من المعرض

0 تعليق

التعليقات