بغداد | تمرّ المجتمعات بلحظات عصيبة وأحداث مأساوية، ترسّخها في الذاكرة الجمعية أكثر أعمال إبداعيّة. قبل يومين، مواقع التواصل الاجتماعي في العراق كانت مشغولة بالتنديد بما حصل للجندي العراقي مصطفى ناصر هاني على أيدي مجموعة من الدواعش في مدينة الفلوجة في محافظة الأنبار. بعدما نفدت ذخيرته وفقد لأيّام الاتصال بفوجه (المغاوير الأول- قيادة عمليات بغداد)، أقدمت عناصر داعشية على أسر هاني في مدينة الكرمة (غرب العراق) وإعدامه وتركه معلّقاً على أحد الجسور هناك. كما استعرضوا به في سوق المدينة وهو كسير الساق ومصاب إصابات بالغة. هذه الجريمة أشاعت موجة غضب عارمة، وأخذ رسّامون وشعراء يحتجّون على الحادث الأليم كلّ بحسب طريقته. رسم وضّاح مهدي لوحة (الصورة) تصوّر اللحظات الأخيرة من حياة الجندي قبل أن يغدر به ملثّمو «داعش»، حيث ساقه المصابة بجبيرتها البيضاء تبيّن فداحة الفعل، ورأسه المرفوع إلى الأعلى بحبل القتلة، لم يجد قبالته إلا السماء ليبادلها الصمت. جعل الفنان من أرضية العمل سوداء، في إشارة لمن وقف ينظر إلى الجريمة واكتفى بالسكوت أو توزيع ابتسامات يصعب علينا توصيفها. وفي تخطيط الفنّان أمجد الكعبي، التصوير نفسه للحظة الإعدام بالأبيض والأسود، واضعاً مصطفى فوق أبنية المدينة التي ذبح فيها، بل فوق العراق كلّه. ساقا مصطفى بارزتان وواضحتان أكثر من أيّ شيء في العمل، وتحتهما فوضى من موجودات تجهل مصيرها.

أمّا النحّات أحمد البحراني، فقد جعل الشهيد كائناً أسطوريّاً، يملك جناحين يطير بهما وعيناه على أرضه الملتهبة التي لم يكمل مهمته فيها بعد نفاد عتاده. ومثلما أبدع في رسم مأساة الايزيديّين في سنجار (غرب الموصل) قبل أشهر، قدّم أحمد نصيف عملاً مختلفاً اسمه «مصطفى». لم يتّجه إلى توثيق الحدث بحذافيره، بل تصرّف بأبعاده وفضاءاته، موظّفاً لونين هما الأحمر والأسود. أعطى اللون الأوّل للمقصلة التي أخذت روحه، ومنح الثاني للظلام الذي يلفّ المكان ويشعّ جسد الشهيد وسطه. واقترح الصحافيّ كوكب السيّاب على الحاسوب، تصميماً جديداً لنصب الحريّة للنحات جواد سليم (1921-1961)، أدخل فيه مرأى مصطفى الأخير، ليكون بين رموز وأبطال النصب الأشهر في العراق.
شعريّاً، توالت المقاطع التي كانت جزءاً من ردّة الفعل الإبداعيّة على الجريمة النكراء، وكتب الشاعر إبراهيم البهرزي: «دنا/ وتدلّى/ كنافورة الضوء من سدرة المنتهى/ كنت وحدك مثل النبيّين/ فاستفردتك الشياطين/ حتّى اعتصمت بوحيك يا مصطفى/ أيّها المصطفى..».
المؤسف أنّ بعض التعليقات في الفضاء الافتراضي غذّت أكثر أجواء الشحن الطائفي، باستعداء مدينة ومكوّن بكامله في وقت نتناسى ما يحصل على الأرض من حقائق: أليست حديثة (غرب العراق) مدينة عراقيّة في محافظة الأنبار، تقاتل «داعش» منذ أشهر من دون إمدادات ودعم مطلوبين؟ ألم يقتل الدواعش طفلة أنباريّة بعمر سنتين قبل أيّام؟ هل نسينا المئات الذين ذبحهم التنظيم الإرهابيّ هناك؟ المشكلة أنّ ذاكرتنا قصيرة، وأقدامنا تذهب بسرعة إلى الوحل، وهذا ما يريده الدواعش تحديداً.