اعتناء بالتفاصيل ومسرحتها في الفضاءات المهجورة
هكذا سيحيي قائد المجموعة العسكرية وهو يقف على حافة حفرة قبره، بعدما فقد أخوته في المجموعة بعبارة «الحب كله» متخليّاً عن الخطاب التعبوي المباشر، فالحب في لحظة الموت هو العزاء الأخير الذي يلجأ إليه صنّاع الشريط وشخصياته بين ركام المدينة المدمّرة، وهو أيضاً من يغذّي ذاكرة يوسف المحتشدة بالموتى وأهوال الحصار بنفحة حياة تبزغ من شجيرة ياسمين تعرّش بظلالها على حطام سيارة، إثر لقائه «يارا» (لمى الحكيم) التي حوصرت في المدينة خلال بحثها عن شقيقها المفقود في الحرب. إذ تتحوّل الكراهية تدريجاً إلى حب عاصف بين الاثنين تشحنه المحنة التي جمعتهما في مكانٍ واحد بالعاطفة المتأججة، ليخلصا إلى أن «حضن الوطن» هو عناق بين عاشقين في شرفة مفتوحة على الخراب، وليس شعاراً ممجوجاً. وسوف تكون الكنيسة التي يحميها خوري رفض مغادرة المدينة واضطر إلى أن يخلع جبة الكهنوت مراراً (حسين عباس) ملاذاً للموتى والأحياء، قبل أن تقتحم المكان كتيبة مسلحة يقودها «أبو عبد الله» (جود سعيد)، لينتهي الخوري برصاصة في رأسه كمحصلة للغة الوحيدة التي يفهمها المسلحون، بعد مبارزة كلامية بين الاثنين حول الهوية الأصلية والهوية المزيّفة، والمقيم والعابر في المكان.
على مقلبٍ آخر سنتعرّف إلى كتيبة الجنرال، وهو طيّار حربي متقاعد، اضطر أن يؤسس كتيبته الخاصة بمشاركة بناته لحمايتهن من الموت أو الخطف، بجرعة إضافية من الكوميديا السوداء التي ألقت بظلالها على معظم وقائع الشريط. كما سنلتقي فتاة فقدت عائلتها في مذبحة، فاضطرت إلى حمل السلاح قبل أن يعتقلها أبو عبد الله انتقاماً لمقتل شقيقه على يديها، لكنها ستفجّر نفسها بقنبلة كان تركها لها والدها قبل أن يفجّر هو الآخر نفسه وبقية عائلته لحظة اقتحام المسلحين بيته في غياب الفتاة، وتختلط أشلاؤها بأشلاء أبي عبد الله داخل السيارة التي اختطفها بها. سننتبه إلى أن جدارية الحطام، المقتبسة عن قصة «وقت للاعتراف» للكاتبة سهى مصطفى، ليست حكايات عن الحرب فحسب، بل أيضاً نظرة جانبية إلى قوة مشتل العيش الذي ينعش ترابه «مطر حمص» نقطةً نقطة، رغم توقّف ساعة الساحة في المدينة عن العمل، بالإضافة إلى تفكيك عميق لخطاب ملغوم اتكأت عليه مدوّنة الحرب، ولكن من خارج مفردات الاصطفاف والتخوين والمدوّنة الطائفية العمياء.
هنا ستجد الشخصيات فرصة لقول فكرة مضادة عن أسباب احتجاجها وخروجها إلى الشارع، خلافاً لأفلام أخرى أنتجتها «المؤسسة العامة للسينما»، غيّبت الصوت الآخر نهائياً لمصلحة خطاب دعووي عابر، يصلح لهواة النوع لا أكثر. لم ينغمس الشريط إذاً، في الحكي وحده، إنما انخرط في نزعة بصريّة أخّاذة بكاميرا وائل عز الدين، سواء في المشهديات البانورامية للمدينة، أم لجهة الاعتناء بالتفاصيل ومسرحتها في الفضاءات المهجورة. من جهته، سيلجأ المتلقي مرغماً، وهو يستعرض البيوت التي خلت من أهلها، إلى اختراع حكايات الغائبين التي كانت تضج بها شوارع المدينة قبل دمارها بقليل، وإنشاء مدوّنته المضمرة حول العنف والحب المختلس ومصائر الناجين من الموت. وربما سيردّد مع أمير كوستوريكا مرّة أخرى «لندع الفانتازيا تعبّر عن أقدارنا، ولن نندهش كثيراً»، وبنبرة أكثر وجعاً «ذات مرّة كانت هناك بلاد...».