الأثواب المعلّقة كانت نساءً في الأصل. من بيت لحم إلى الجليل، إلى رام الله أو إلى نابلس. منذ احتل العثمانيون فلسطين، إلى النكبة، والاحتلال، منذ وقتٍ طويل، وإلى اليوم. إنها أثواب مقطوعة من الماضي، من أجساد أصحابها الأصليين، ومن الأصابع التي حاكتها، ربما ببطء، وربما على عجل، لكن بشغفٍ شديد. صحيح أنها فارغة لا يحرّكها إلا نسيم قليل يمرّ في الذاكرة، ولا صوت لها إلا الكلمات التي كتبت إلى جانبها تعريفاً عنها، لكنها أثواب تأتي في السياق، سياق الحكاية. اختار المنظمون لمعرض «التطريز في سياقه السياسي» طابعاً أكاديمياً. واختار «المتحف الفلسطيني» بيروت ليحط فيها المعرض الذي تحتضنه حالياً «دار النمر للفن والثقافة». ربما لأن بيروت لبست من هذه الأثواب وعرفت روحها.
بيروت مثل فلسطين. امرأة تستريح في رداء التحولات. قبل 1917 بقليل، تأسس «الاتحاد النسائي العربي» في يافا. وفي 1925، تأسست «جمعية النهضة النسائية» في رام الله. 300 امراة اجتمعن في القدس عام 1929، في المؤتمر الأول للمرأة العربية. إذاً، التطريز الفلسطيني في أي من سياقاته المتشابكة لا يُقرأ خارج الإطار النضالي النسوي للمرأة الفلسطينية. والمسألة ليست مسألة خيار، أو تحليل خفيف الظل على طريقة الجمعيات الأهلية الدارجة. المسألة أنتروبولوجية بامتياز. وجد المشهد نفسه في قلب المرأة الفلسطينية قبل أن تجد نفسها فيه. في الجليل مثلاً، تطور عمل المرأة الفلسطينية بوضوح منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. اعتادت النساء في شمال فلسطين على ارتداء القميص والشروال، مع معاطف مزركشة بألوان تبعث على الفرح، فيما قل حضور الرسم في التطريز، لحساب وفرة القطب. يحيل هذا على استنتاج يفيد بانتفاء صيغة الحداد، وتجلياتها اليوم في الملابس «الشرعية» الطارئة على الثقافة الفلسطينية. أكثر من ذلك، فكما هي الحال مع الكثير من الأزياء الفلسطينية، كان الرداء الجليلي عابراً للطوائف، ما يدل على أنّ الهوية الفلسطينية كانت غالبة بوضوح تام على أي نزعة طائفية أخرى. إلى حدٍ كبير، لم يكن ممكناً تمييز المرأة المسلمة عن المسيحية في الجليل (وإن ظلت النساء الدرزيات يضعن شالاً أبيض طويلاً فوق الرداء كي يميزن أنفسهن).
قبل النكبة، شكل المكان عاملاً مهماً في التطريز

كل شيء في مكانه. الأثواب ــ الأجساد تمشي في المعرض بعيون الناظرين إليها. رحلة تعب طويلة. في الستينيات، انتقل الحيز من الجسد إلى المنزل. يُفسّر هذا في 1966، عندما حظرت السلطات الأردنية الاتحاد النسائي الفلسطيني والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية. في السبعينيات، كان الرداء مشروعاً مقاوماً. في الثمانينيات، اندلعت الانتفاضة، وانتقل العلم إلى الثوب الفلسطيني، ما جعل الاحتلال يحارب اللباس الفلسطيني الذي ينجح حتى الآن، رغم خفوته، في الإقامة في جزء مضيء وآمن من الذاكرة الفلسطينية. ومثله مثل أي مسألة سوسيولوجية، شهد التطريز تغيّرات عدة. بعد النكبة، ضاع الموردون، وتراجعت الصناعات التي قامت عليها الحياكة بصورتها التي كانت قائمة، إضافة إلى التغيّر في شبكة العلاقات الاجتماعية. غير أن النسوة تابعن التطريز هذه المرة بحساسيات جديدة ومشتركة، تختلف عن الحساسيات القديمة. قبل النكبة، شكل المكان عاملاً مهماً في التطريز، بحيث تمايز المنتج على أساس الدائرة الجغرافية التي يخرج منها. أما بعد النكبة، فاحتكت النساء ببعضهن في المخيّمات. انعكس هذا التغيّر الديموغرافي في الثوب الفلسطيني بعد النكبة، وإن كان اقتفاء أثره ظل محدوداً، إذ حافظت النساء على الجوهر. وبالفعل، بعد تراجع وصول الحرير من دمشق، والأصباغ من فرنسا، وتزامناً مع ظروف حياتية صعبة في المخيّمات، استعادت الثياب المطرزة قوتها لكن بصورة آلية بدل اليدوية. وهذا تحول أساسي، امتد إلى الثمانينيات، حتى وصل الفلسطينيون في أثوابهم إلى صيغة تحاكي التقليد وتنهل من حداثة الزي المعاصر. تاريخياً، تبنى سكان المدينة في فلسطين أنماط اللباس العثماني أو الأجنبي منذ بدايات القرن العشرين، كما مارسوا أنماط التطريز الأوروبية وصناعة الدانتيل. ولذلك، كانت للطبقات الفلسطينية الوسطى والعليا علاقة مختلفة مع التطريز الريفي، فتعاملت معه باعتباره زياً للتأنق، أو عملت على إدماجه بحساسية ضمن الثياب ذات النمط الأوروبي. أما في الحاضر، فثمة حاجة إضافية لقراءته من أكثر من زاوية، إذ لا يمكن اليوم مثلاً، الإطلالة على هذا العمل الشاق من نافذة لا تكون نسوية.
في لوحة «العائلة» لنبيل غناني لا يوجد أب. استغنى عنه الرسام، لسببين على الأرجح. الأول، أنه مات. قتله الاحتلال. والسبب الثاني، هو أنه لا حاجة له في الصورة، لكي يتصدّرها، أو يستحوذ على الحيز البصري فيها. المرأة الفلسطينية تكفي، المرأة الفلسطينية عائلة. اللوحة معلّقة بين الأثواب كما لو أنها تعلن الهوية الحقيقية لصانعات هذا التراث، كي لا يكون اسقاطه على الحاضر اسقاطاً أيديولوجياً خاوياً. المرأة الفلسطينية هي الحكاية. ستجد قصصاً كثيرة عن المجتمع الفلسطيني، ترويها النساء الفلسطينيات الفلسطينية بأصابعهن. لقد كان اللون الأحمر هو الأكثر شيوعاً في التطريز الفلسطيني، بينما يشير اللون الأزرق في تقاليد التطريز الفلسطيني إلى الحزن. كانت الأرامل يطرزن ثيابهن باللون الأزرق، أو يصبغن ثيابهن باللون النيلي، ولا يظهر اللون الأحمر إلا عند استعدادهن للزواج من جديد. وفي أريحا، كن يرتدين ثوب القِب، مطلع القرن العشرين. كان طوله وافراً ويلتحف الجسد، فيصنع حلقات هائلة الحجم من القماش، تغدو جيوباً كبيرة. كن فرحات بعفوية البداوة في أريحا. وفي طولكرم ونابلس، عرفن ثوب الجنة والنار، الذي تعود تسميته إلى قماشه، إذ تشير الخطوط الخضراء إلى الجنة، والحمراء إلى النار. كذلك، تعرف الأثواب المقدسية ذات الخطوط الخضراء والحمراء بالتسمية ذاتها. هكذا، يتنقل الناظر في المعرض، من ثوبٍ إلى ثوب، ومن مدينة إلى مدينة. من امرأة إلى امرأة. وفي إحدى المقابلات، التي تبث مع مطرَّزات فلسطينيات، داخل المعرض، تتحسر رجاء منذ سنة ونصف لأنها غير قادرة على التطريز. ضربها جنود الاحتلال بالعصي، وأطلقوا الغاز. بسمة تعيش في عمان، تقاوم أي تسرّب في الذاكرة الجماعية بالتطريز. «إنه كالهواء».

«أطراف الخيوط: التطريز الفلسطيني في سياقه السياسي»: حتى 30 تموز (يوليو) ـــ «دار النمر للفن والثقافة» (فيلا سالم، شارع أميركا، كليمنصو) - للاستعلام: 01/367013 ـــ darelnimer.org