النوبل البيلاروسية إلى لغة الضاد: سفيتلانا أليكسييفيتش... ضد الإمبراطورية

  • 0
  • ض
  • ض

الكاتبة البيلاروسية التي اعتبر فوزها بجازة نوبل 2015، فوزاً سياسياً موجّهاً بشكل غير مباشر ضد بوتين، انتقلت أخيراً إلى لغة الضاد («دار ممدوح عدوان» و«مصر العربية للنشر والتوزيع»). بينما يعدّ «فتيان الزنك» رواية وثائقية عن الحرب الأفغانية، تجمع «صلاة تشرنوبل» شهادات عمال الإطفاء وزوجاتهم، والجنود والأطفال، والفلاحين الذين رفضوا مغادرة أراضيهم إثر انفجار المفاعل الشهير.

يمكننا، إلى حد بعيد، وصف الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش (1948) التي نالت جائزة «نوبل للآداب» 2015 بأنّها مؤرخة شديدة الخصوصية. هي تنطلق إلى الأدب من وجهة نظر كيدية، شاغلها، نفي التاريخ المعلن، أو التصريح بتاريخ موازٍ، ليبدو همها أن تقول لكافة أشكال السلطات، ــــ ضمناً الانتماء والذاكرة ــــ أنتم كاذبون، إنّ ثمة رواية أخرى، هي رواية تاريخ المعاناة، إن جاز لنا التعبير. إنّها تؤرخ لما يمضي دون ترك أثر.

ذلك الفعل الفادح، جعلها تقول إثر إحدى المحكامات التي تعرضت لها بسبب كتابها الإشكالي «فتيان الزنك» (1991): «الكتابة في بلادنا التعيسة هي مصير أكثر من كونها مهنة!».
تكتب سفيتلانا ما يعرف بالرواية الوثائقية، وهو نثر روائي يقدم الحقائق والشواهد المختلفة في إطار فني. إنّه نثر يحلل المواد الوثائقية ويستخدمها في صياغة أدب خالص في النهاية.
تبدو سفيتلانا في كتابيها اللذين نقلا أخيراً إلى العربية («دار ممدوح عدوان»، و«دار مصر العربية للنشر والتوزيع») «فتيان الزنك»، و«صلاة تشرنوبل» (1997)، هازئة بفكرة الوطن التقليدي، وهو الذي يستدعي التضحية فقط. وإذا كانت تسأل في «فتيان الزنك»: «هل يرسل الوطن خيرة أبنائه إلى الهلاك بلا فكرة عظيمة؟»، فإنّها تجيب في «صلاة تشرنوبل» بأنّ «الوطن ينادي، الوطن يقرر». يبقى هاجسها الأساس في كلا العملين «من نحن في الاتحاد السوفييتي، ولماذا يمكن أن يفعلوا بنا أي شيء؟».


تشتغل على تاريخ مغفل،
عن أناس مجهولين
إن كانت ترى بأنّ تبدد الوعي وتشتته هو ما ينقذ الإنسان في الحروب، فإنّها لا تتوقف البّتة عن محاولات عبثية لإمساك وعيٍ ما، ينادي بكون الإنسان هو القيمة الأساسية في الحياة. لا تتوقف سفيتلانا عن التحذير بأنّه يجري تحويل ذلك الإنسان، بصورة إجرامية، إلى «برغي في ماكينة السياسية». إن كانت تصور الناس، في بلدان محكومة بنظم إعلام مخادع، على أنّهم غافلون، أو غير مكترثين، أو أعداء لأنفسهم، فإنّها لا تتوقف عن تخريب الوعي الراكد، تخريباً أدبياً لذيذاً.
يعد «فتيان الزنك» (دار ممدوح عدوان ـ سوريا) الذي نقله إلى العربية عبد الله حبه؛ رواية وثائقية عن الحرب الأفغانية. تقدم الكاتبة شهادات ويوميات الجنود الروس وأمهاتهم والممرضات وفق رؤيتها «للزمن» وتعتمد في جل الكتاب على مقاطع من أحاديث في المطار، في المستشفى، في معسكر التدريب، وعلى لحظات منتزعة من الحياة الآثمة. أي، الحياة التي بات استمرارها مشكلة بالنسبة إلى رجال أصبحت الحرب هاجسهم، طالما أنّهم اختبروا «الشعور الحاد» للقتل الممتع، ولو أنّهم عادوا إلى أوطان مسالمة، يسودها القانون، والذي أساساً دفعهم إلى تعلم القتل، من دون التفكير في العواقب، عندما ينتهي دورهم كقتلة؟
في الكتاب موقفان بالغا الوضوح، لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلهما عن محتوى النص الأدبي، إذ تخبرنا الكاتبة عن وجوب «اتخاذ مواقف أخلاقية في الحروب» ثم تجعل من معركتها معركة سياسية في المقام الأول، بمعنى ما. تصوّر «الواجب الأممي» الذي اندفع إليه الشبان الروس، على أنّه خطأ سياسي غير مسؤول، جعلهم «كبش فداء» وضحية مروعة لحرب عمياء خالية من أي معنى. وتضع الكاتبة الجندي الروسي أمام تساؤل مدوٍّ: بين الإعلام الأفغاني وإعلام السوفييت، هل نحن محتلون أم أصدقاء؟ هل نحن قتلة أم مخلّصون؟ لقد نُزعِوا من حياتهم المدنيّة وتحولوا إلى قتلة بلا روح، إلى مدمني مخدرات ومغتصبين، من أجل لا شيء! لا تواري سفيتلانا هذه «الحقيقة البشعة». لقد حولوا البشر إلى «حيوانات»، شحنوا الجنود بالصناديق «كالخراف» ثم أعادوهم إلى أهلهم في توابيت من الزنك.
أما في كتابها «صلاة تشرنوبل» (ترجمة أحمد صلاح الدين ـــ دار مصر العربية للنشر والتوزيع). توثق الكاتبة أصواتاً اقتربت من الموت، إلى درجة، بات نثرها، سرداً للرعب، ونقلاً لحدث «خارج الثقافة»، وخارج تاريخ الحروب المألوفة. يوثق الكتاب شهادات عمال الإطفاء وزوجاتهم، الخبراء، الجنود والأطفال، الفلاحين الذين رفضوا مغادرة أراضيهم إثر انفجار مفاعل تشرنوبل. يمضي الجميع إلى موتهم غافلين بمعظهم، أو عارفين بخطورة التعرض للإشعاع. لكن، ما هو الأفضل؟ أن نتذكر أم ننسى؟ تزعم سفيتلانا أنّه يحتم علينا إضافة شيء إلى الحياة كي نفهمها. وهي تجعل من أدبها تلك الإضافة. وترفع من وظيفتهِ، كي يكون دولة الناس مقابل دولة السلطة. إنّها تشتغل على تاريخ مغفل، عن أناس مجهولين، لا تعمل على إخفاء حنقها على حال الإنسان في دول الاتحاد السوفييتي، حيث رموا الناس إلى كارثة، «مثلما رموا الرمل على المفاعل». لقد استخدموا الناس مثل رجال آليين. تعتبر قضية الكتاب الأولى هي ما بات يعرف «إنسان تشرنوبل»، لكن المؤلّفة تصور «انتقال حال البلدان الستالينية من الصلاة لماركس إلى الصلاة للدولار». يحضر في خلفية الأصوات التغير السياسي الذي شهدته تلك البلدان، وقد سرعت تشرنوبل في تفكك الاتحاد السوفييتي، ربما ليصح تشبيه سفيتلانا «التشرنوبليين» بأنّهم: «حتى بعد موتهم يضيئون» ليكون تشبيهها تشبيهاً وظيفياً يكاد يكون سمة لأدبها.

0 تعليق

التعليقات