روايته الجديدة «ألواح» شذرات من سيرة ذاتية: يوم بكى السيد رشيد

  • 0
  • ض
  • ض

مع انني أحببت الصورة لبيكاسو على الغلاف كنت أفضل غير هذه التسمية التي لا تعكس بالتمام الجو الذي يتميز به الكتاب كأن يكون العنوان «محطات»؛ وهي كلمة تدل على مراحل الحياة كما توحي بالحركة والتنقل والسفر وتبديل الأماكن... وهذا ما يتناوله الكاتب رشيد الضعيف بالتمام.

إلا إذا كان المقصود بالعنوان «الواح» (دار الساقي) ما يكتب عليه المعلم في المدرسة كأن المؤلّف هنا يكتب كل فصل من حياته على لوح لنقرأه نحن التلامذة الذين ننتقل نحن أيضاً في تجارب الحياة ومسارها المتعدد والغني والمعقّد ونبقى تلامذة على مقاعدها؛ وكم بيننا من يرسب ولا ينجح في أي مجال (ص56).
ومع ذلك، فالكتاب جزء مهم من سيرة ذاتية أو فصول حياة عاشها وعرفها المؤلف وأراد أن يشاركنا بها. أقول محطات لأن الكاتب يأخذنا في رحلة متعددة المراحل والظروف ويحدثنا دائماً من وجهتين وطريقين متعاكسين كأنه في حروب متواصلة مع الذات وفي حالة تمزق وتفسخ مستمرة! كأنه يهوى هذه المواجهة بالرغم من الخسائر التي يتكبدها على اكثر من صعيد. وكم يمازج بين الحرب اللبنانية وبين حروبه الخاصة (ص125). وهذا ما يختصره في نهاية الكتاب التي تدلنا إلى المحتوى وخلاصة هذا الصراع؛ إنه في منتهى الحزن واليأس والاستسلام كأنه كلب عجوز انتهى مفعوله... (ص 159) وهنا تعود فجأة صورة والده الذي مات سعيداً... بعكس حالته هو لأنه لم يعرف السعادة ولا الاستقرار يوماً. اذ يعيش منذ الطفولة في حالة بؤس بالرغم من بحثه المستمر عن السلام والهناء الداخلي. فالوالد لم يمت سعيداً فقط، بل عاش حياة بسيطة بعيدة عن الفلسفة والايديولوجيات وأنجب عائلة وظل يعمل ويكسب لإعالتها. يتوقف عند الفرحة الكبرى حين يكسب من عمله اليومي أكثر ما كانت تحتاج إليه العائلة (ص 11). غير أنّه لا يستطيع ان ينتشل العائلة من الفقر المتزايد لتزايد متطلبات الحياة المادية والتربوية والمعنوية (ص 114). إلا انه من جهة تالية، يركز على دور الأم في الحفاظ على مملكة العائلة (ص17) بالرغم من كل الصعاب والتحديات وقساوة الحياة، فالأم ملك للأولاد! (ص98) وهي خلقت لتكون لهم حناناً دون حدود وخدمة وتضحية كاملة (ص21). ولا يحق لها الخروج من بيتها مطلقاً (ص33) ولا فرد يتحمل هذا الأمر (ص21) فالرجل كما الأولاد يمتلكون أمهم! كما انه هو يريد تملك عشيقاته!


مشهد رائع لهذه الأم التي تلف حصتها من الفرّوج وتضعه في عبها من أجل أولادها

أما العنصر الآخر المكمل لعالم العائلة، فهو أسلوب نظام مجتمع الجبل الذي يحكمه شيخ القبيلة «الوجيه» (ص 84) الذي يتدخل في كل أمور اتباعه ويتصرف وفقاً لمصالحه. وقد تأثر رشيد وتشبّع من هذا النظام بكل أشكاله وعناصره. و«الوجيه» هذا لم يتصرف بعدل إثر حادثة مؤلمة ادت الى بتر ساق اخيه الأكبر يوسف (ص 39)، ما أدى بالعائلة الى الدخول في لعبة الثأر وهي من صلب ركائز هذا المجتمع الجبلي. فلا تعود كرامة العائلة ولا يستعاد الاعتبار إلا بعد الانتقام من ابن البلدة الذي اطلق النار (ص 42-43 ). عندها، يعود السلام والهناء الى كل افراد العائلة الذين يتشاركون المصاب ويتضامنون بشكل كامل في هذا النظام القبلي- الإقطاعي. المحطة التالية التي يرويها لنا وطبعت القسم الثاني من حياته، هي الانتقال إلى بيروت ليدخل في تجربة مجتمع آخر يختلف بالكامل عن المرحلة السابقة (ص109). انغمس في الفكر السياسي التحرري، غير أنه أصيب بنكسة من هذه الفلسفات التي بلورها أصحابها لتحسين الحياة على هذه الأرض (ص 8). عند هذه الخيبة، بدت الحياة رتيبة فارغة كأن هذا الحدث هو قتل للإنسان وللحلم. وبدت الحاجة إلى معجزة أكثر من فعل وجود أو لزوم «سر جميل حتى تحلو الحياة» (ص 9) كما يقول.
والمحطة المعبرة في الكتاب ما يرويه عن مغامرات عاطفية مفتوحة على كل الاحتمالات. ولم تكن النتائج إلا صدمة تزيد من الحسرة والضياع بالرغم من كثافة الممارسة الجنسية التي كانت تهدف إلى إشباع نزوات تعود إلى عهد المراهقة أو كأنها انتقام لتلك المرحلة من حياته في بلدته (ص 73) حين شاهد صديقة أمه عارية بالكامل وهي تستحم! ولعل علاقته بتلك الفرنسية هو الاختبار الذي ولّد في ذاته الوجع الكبير، إذ تنتهي الأمور بشكل مأساوي حزين جداً.
فهذه العلاقة أو التجربة مع امرأة تختلف عنه لغة وحضارة وتقاليد وطريقة تفكير وسلوك حياة، قد زادت من هذا التناقض والتضاد في ذاته؛ فهو مرة أخرى تتجاذبه تيارات متصارعة (ص 123). يقصد نيويورك ليكون بجانب عشيقته ثم تشتد به الرغبة بالعودة إلى الوطن حتى حدود البكاء على هذا الوضع أو المصير (ص 128). هل هي حالة بسيطة أن يبكي رشيد؟ فلم يستطع التأقلم مع طريقة حياتها (ص 130) وهي الفتاة المتحررة التي تعشق الحياة كأن كل الكون هو بيتها. هو الآتي من بلد تربى على مفهوم العائلة وحمايتها ودورها وانتظامها (ص 140) وهي التي ترتكز حياتها على فرديتها وذاتها (ص 141) وتفلتها (ص 127). تتكثف التجربة، مما يضاعف من الضياع كأن قوة خفية تقوده (ص 156)... فالسفر والجنس المتفلت يساعدانه على التنفس فقط، اذ انه دائم الشعور بالاختناق لا سيما في الغربة. لربما تبقى في كيان المؤلف صورة أمّه التي يرفعها الى مرتبة الترّهب ونذر الذات لبيتها وعائلتها، ولا تخرج منه إلا لضرورات وفي محيطها فقط. هنا يحلو لكل قارئ لهذا الكتاب أن يتوقف عند مشهد رائع لهذه الأم التي تلف حصتها من الفرّوج وتضعه في عبها وتهم بالعودة إلى بيتها وأولادها ليلة يدعوها زوجها الى تلك السهرة في البلدة. مشهد مؤثر رائع بدلالته! إنّه الحدث الفاصل بين زمنين! مفتاح آخر للدخول الى حديقة القصة الممتعة! (ص 20)
هذا الانكسار الدائم في الحب والعشق، قاده إلى ربط الفشل بانفجار القنبلة الذرية على هيروشيما في نفس اليوم الذي انفجر فيه رحم والدته عند ساعة ولادته... إشارة إلى استمرار الحياة والأمل للبشرية. هو الفاشل في كل الحقول والمجالات العلمية والأدبية، لكنه ينظر الى نفسه كـ «حمّال الأمل» (ص 155). الولد الآتي من مجتمع جبلي ريفي فريد بتركيبته وتقاليده، يربط بشكل لبق يوم مولده بحدث بشري تدميري رهيب. صورة أو بلاغة ذكية مهضومة تحمل بعداً ساخراً تهكمياً! يمكن اعتبار هذا الترابط ضمن عملية اكتشاف الذات والإفصاح عنها أو تعريتها بشكل كامل (ص 107). يدّعي أنه لا يعرف نفسه انما يعرف أنه يتحرك ويتبدل وانه يقيم ويعيش... وهذا هو مصدر الحياة وغناها! يساعده في هذه المهمة هذا الارتباط القوي باللغة التي هي أيضاً مصدر حياة وتواصل وانتظام (ص 125). ممّا يسهل عليه عملية تنظيف الداخل (ص 108)، إذ أن الحياة هنا أيضاً في علاقة جدلية بين الظاهر والخفي. ربما تكون الكتابة شهادة لتجارب الحياة وجروحها (ص 131) واذلال النفس. إنما هنا تبدو للمؤلف انتصاراً وتحدياً وفعل رجاء (ص 158)... وهذه المعرفة جزء من المكاشفة...
مدوّن رائع رشيد ومستمع جيد هادئ يعرف أن يصغي إلى الزمن والكون فيلتقط الإشارات ويربط مراحل الحياة وتجاربها ببعضها بكل الفن والسهولة والسخرية المؤلمة! وهو يبرع أيضاً في إدخال القارئ في لعبة مسار الرواية ومشاركته في حركة الحياة ودورتها، وصراعاتها وتناقض الثنائيات لا سيما الحب والكراهية. وفي كل قصة أو مرحلة جزء منّا، لا سيما الذين يتحدرون من هذا المجتمع اللبناني الريفي، والذين اختبروا الكثير من التجارب التي عاشها المؤلف. أولئك الذين نزحوا إلى بيروت أو عاشوا في المجتمعات الغربية هرباً من الحرب وتوقاً إلى الحرية واكتساب تجارب غنية. ويبقى الجنس هنا الوسيلة أو الدواء لبلسمة جروح الماضي وعنف التقاليد. غير أن المأساة والتمزق يستمران لأنه لا تبدو الحدود واضحة بين الحياة وجروحها وبين الحاضر والمستقبل. وهذا ما يولّد المزيد من الحزن والمرارة وعدم الإستقرار، فيختل التوازن، وتشتد هشاشة الشخصيات وغربتها عن ذاتها وعن الآخرين. ولأنه لا يريد أن يتركنا في حالة اليأس كأنها النهاية والظلام، فإنه يعدنا بمفاجأة، إذ هو مصر على مواصلة هذه المجابهة... فالكتابة عن الماضي مسؤولية كما تقول الكاتبة التركية ألف شفق، فكيف إذا كانت اعترافات عن الذات وبوحاً مفتوحاً شجاعاً عن تجارب ذاتية يقولها بانفتاح وتفصيل دقيق. فلا أظن أنه أراد أن يقول أن الهروب من الذات عملية مفيدة نافعة، بل إنّ الصراع والمجابهة ما يعطي الذات معنى الوجود الفاعل.
فإلى ماذا يدعونا الكاتب؟ وما يتناوله في السيرة نماذج عن السلوك البشري ربما في كل أصقاع الأرض. وفي الختام نتذكر ما ردد الكاتب الأميركي كورت فونغوت «إن كل كتابة هي سيرة ذاتية... أو الى شيء».
رشيد الضعيف شكراً لك... فالكتاب محطات تروي بعضاً من تجاربنا ونمط حياتنا وهوية حضارة الجبل التي في طريق الزوال!

  • الكاتب اللبناني رشيد الضعيف

    الكاتب اللبناني رشيد الضعيف

0 تعليق

التعليقات