في كتابه الجديد «تاريخ دمشق المنسيّ ـ أربع حكايات 1916 - 1936» الصادر حديثاً عن «دار الريس»، يقدم الكاتب والمؤرخ السوري سامي مروان مبيض، مادّة تأريخيّة تعين على قراءة الواقع السوري الحالي، في خضمّ الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، ويمكنها كذلك أن تعين على قراءة المستقبل المنشود بعد أن تحطّ هذه الحرب أوزارها. كل ذلك انطلاقاً من مقولة أنّ قراءة تحليلية علمية لوقائع حصلت في الماضي، تؤدي إلى فهم الحاضر وتوقّع المستقبل من حيث هما نتاج طبيعي لسيرورة التاريخ.انطلاقاً من هذه الفكرة، يختار مؤسس «مؤسسة تاريخ دمشق»، المعنية بالحفاظ على إرث العاصمة السورية، العودة بالتاريخ إلى أربع حكايات منسيّة من تاريخ سوريا الحديث. في المقدمة، يؤكد أنّ الدراسات، التي يحويها الكتاب، ونشرت سابقاً باللغة الإنكليزية في مجلات أكاديمية، تحمل قصصاً تبدو في ظاهرها «متفرقة، حدثت ذات يوم في أقدم مدينة مأهولة في العالم، ولكنها في الحقيقة متصلة جداً، وفي طيّاتها دروس وعبر». يقسّم صاحب «فولاذ وحرير» كتابه إلى أربعة فصول، ليروي أربع حكايات أطلق عليها اسم «المنسيّات»، تشترك جميعها ـــ رغم الفارق الزمني الذي يفصلها عن بعضها ـــ بأنها جزء من تاريخ سوريا المهمل، أو ربّما، بحسب الكاتب، هي حكايات تعمّد كتّاب التاريخ، والحكومات السورية المتعاقبة، تجاهلها.
في المنسيّة الأولى، يروي حكاية أسبوع مفصلي في تاريخ دمشق، وهو الأسبوع الفاصل بين خروج العثمانيين، ودخول الجيوش العربية والإنكليزية إلى مدينة دمشق، في أيلول (سبتمبر) 1918، قبل أشهر من انهيار الإمبراطورية العثمانية. كانت الحرب العالمية الأولى آنذاك في نهايتها، واضطر العثمانيون إلى الانسحاب من دمشق تحت وطأة نيران مدافع جيوش الحلفاء. هي صفحة من تاريخ المدينة «غابت عن معظم كتب التاريخ والمناهج المدرسية». كان أهالي دمشق لا يزالون تحت وطأة القهر والويلات التي خلفتها لهم الحرب، مشغولين بالمجاعة الكبرى التي ضربت بيروت أيضاً، وأدّت إلى لجوء أبنائها إلى دمشق، مضاعفين بذلك عدد سكان المدينة التي تتطلع إلى الخلاص، ما أتاح للأمير سعيد الجزائري لعب دور بطولة يتطلع إليها. حفيد المجاهد الكبير عبد القادر الجزائري، الطامح إلى لعب دور مشابه لما لعبه جدّه، وقف في تلك الأيّام العصيبة أمام حاكم دمشق العثماني، جمال باشا الصغير، معلناً له: «إنني كجدي عبد القادر العظيم أرغب في المحافظة على الأرواح، ومنع الاعتداء على النساء والأطفال، والوقوف دون النهب والسلب، وما قد يحدث بين الطوائف المختلفة من أناس لا أخلاق لهم». وحين طلب جمال باشا الحماية منه أيضاً، وافق مشترطاً انسحاب القوات العثمانية والألمانية كافة من دمشق.
يسجّل لفرنسا أوّل تقسيم عرفته الأرض السورية وإدخال كلمة «علوي» إلى القاموس!

استطاع الدمشقيون في تلك الأيام الحفاظ على مدينتهم، بقيادة الأمير سعيد، الذي تسلّم راية الثورة العربية، وقام برفعها على سارية السراي الكبير، بعد إنزال العلم التركي، وإعلان نهاية حقبة الاحتلال العثماني. رغم كلّ ما طاول ذلك الأسبوع من تعتيم وتجاهل، يؤكد مبيض أهميته في التمهيد لمستقبل سوريا، وأهمية الأمير سعيد الجزائري الذي شكّل أوّل حكومة مصغّرة لإدارة شؤون البلاد، قبل أن يتنازل عن كرسيه للشريف ناصر، منهياً بذلك أقصر فترة حكم عرفتها دمشق.
يتناول الكتاب، في المنسية الثانية، التجربة الفيدرالية التي عرفتها سوريا، بعدما فرضها عليها الاحتلال الفرنسي، الذي سبق له أن قسّم البلاد، عند احتلاله لها، إلى خمس دويلات صغيرة هي: دمشق، حلب، سنجق لواء اسكندرون، جبل العلويين، وجبل الدروز، وبعدما اقتطع أقضية حاصبيا وراشيا وبعلبك وسهل البقاع من أراضي دمشق وضمّها إلى دولة لبنان الناشئة. وبذلك يسجّل لفرنسا أوّل تقسيم عرفته الأرض السورية بجغرافيتها الحديثة، كذلك يسجّل لها إدخال كلمة «علوي» إلى القاموس السوري، «حيث أدخلها الفرنسيون للتفريق بينهم وبين المسلمين السنّة، الذين سمّوا في أوراقها الرسمية بالمحمديين». وكذلك، يسجّل التاريخ لفرنسا فرض أوّل اتحاد فيدرالي بين الدويلات الثلاث (دمشق، حلب، جبل العلويين) في حزيران (يونيو) 1922، على السوريين الذين لم يرُقهم الأمر لأسباب عديدة، يفسّر مبيض بعضها. ويرى أنّ الاتحاد الفدرالي كان مشروعاً استعمارياً لم يأخذ في الاعتبار تاريخ البلاد ولا عادات أهلها، وكذلك استثنى جبل لبنان وجبل الدروز وسنجق اللواء من الاتحاد، مع أنها جزء من الأرض السورية، إضافة إلى تعامل فرنسا مع الأقليات في الاتحاد على أنهم جيوب طائفية، مسقطة المواطنية عنهم، ما دفع السوريين إلى السعي لإنهاء هذا الاتحاد، وإعلان حلّه في 1 كانون الثاني (يناير) 1924.
يخوض مبيض، بكثير من العاطفة، في منسيته الثالثة، ليروي حكاية واحدة عن أعرق الجامعات العربية وأقدمها، هي «الجامعة السورية» التي تعرف اليوم بـ«جامعة دمشق»، وكانت نواتها الأولى في عام 1903، بتأسيس «معهد الطب العثماني» بالقرب من نهر بردى، وكان ثالث بناء تصله الكهرباء في عام 1907، بعد إنارة الجامع الأموي، ومبنى السراي الكبير. استمرّ المعهد بالعمل لسنوات رغم الظروف القاسية التي عرفتها دمشق آنذاك، إلى أن تقرر نقل معهد الحقوق من بيروت، التي ضربتها المجاعة عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، إلى دمشق، ليحمل مع معهد الطب، في عام 1919، اسم «الجامعة العلمية السورية» على يد كلّ من مسلم العطار ورضا سعيد.
يروي مبيض حكاية «الجامعة السورية» كمعلم رئيس يمكن من خلاله قراءة تاريخ سوريا بكلّ تقلباته. يرى أنها كانت منارة علميّة عرفت الكثر من العظماء، وخرّجت، على مدى عشرات السنين، الآلاف من الأكاديميين المتميزين بمختلف الاختصاصات، قبل أن تبدأ بالانحدار تدريجاً بعد نهاية رئاسة الدكتور عبد الرزاق قدورة لها، الذي تسلّمها عام 1973.
أخيراً، يجد صاحب «تحت الرايات السود» أن لا بد من الإضاءة على أوّل رئيس سوري منتخب، يُعَدّ الأب الفعلي والمؤسس للجمهورية السورية، الرئيس محمد علي العابد. وعليه، فإنّ المنسيّة الرابعة والأخيرة خصّصها ليروي سيرة واحد من أبناء عائلات دمشق، سليل عمر آغا، ابن حي الميدان، الذي لعب دوراً مفصلياً إلى جانب الأمير عبد القادر الجزائري في حماية مسيحيي دمشق خلال المواجهات الدامية التي عرفتها المدينة عام 1860.
وصل محمد علي العابد إلى سدّة الرئاسة بعد نجاحه في الانتخابات، وألقى خطاب القسم في 11 حزيران 1932، كأول رئيس للجمهورية السورية. شهد عهده مخاضات عسيرة، لكون البلاد ما زالت رازحة تحت الاحتلال الفرنسي، غير أنّه استطاع إرساء اللبنات الأساسية للجمهورية، قبل أن يقرر الاستقالة، نهاية عام 1936، قبل نهاية ولايته، داعياً إلى انتخابات رئاسية مبكرة، ليغادر الرئاسة بإرادته، خلافاً لكلّ الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم سوريا.
أربع حكايات تضمنها «تاريخ دمشق المنسي» عمل فيها سامي مبيض على توثيق المهمل من تاريخ العاصمة السورية، رغبة منه في الإضاءة على محطّات مهمّة عرفتها سوريا، التي تغوص اليوم في أتون الحرب. كأنّه بذلك يؤكّد خلود الأرض السورية رغم كل المصاعب والمآسي التي تعيشها، ويفتح الأبواب لإعادة قراءة تاريخ سوريا قراءة جديّة، بمعزل عمّا طاوله من اجتزاء وتشويه على أيدي كل الذين تناولوه، ولأسباب مختلفة.