على الرصيف المقابل لـ«بيت العطّار»، يجلس الليث حجو أمام المونيتور، مستغرقاً في مراقبة تفاصيلِ مشهدٍ يؤديه سلوم حدّاد، ومحمود نصر من مسلسل «الندم» (إنتاج سما الفن لموسم دراما رمضان الحالي). يتنبّه إلى وجودنا، فيستقبلنا بابتسامته المعهودة ويصحبنا إلى داخل البيت، بعد إعلان رضاه عن المشهد. يشكّل موقع التصوير الذي زارته «الأخبار» جزءاً من ذاكرة صنّاع الدراما السوريّة، باعتباره شهد تصوير أعمال تلفزيونية عديدة، لكنّ أوّل كاميرا دارت فيه، كانت للّيث حجو قبل أربعة عشر عاماً. يومها، صوّر فيه إحدى لوحات «بقعة ضوء» الشهيرة «واللي خالقك ماني مفارقك»، وها هو يعود إليه في «الندم». تستحوذ الذاكرة أيضاً على مساحة كبيرة من هذا المسلسل، للكاتب المعلّم حسن سامي يوسف (تأليف وسيناريو وحوار)، واقتبسه بتصرّف عن روايته قيد الإصدار «عتبة الألم».تدور أحداث العمل في دمشق، وتسير ضمن مسارين زمنيين: الأوّل يبدأ ليلة سقوط بغداد سنة 2003، ويمتد إلى بدايات الـ 2011. أما المسار الثاني، فخلال عام 2016، حيث يسجّل بطله الكاتب التلفزيوني عروة (محمود نصر) وقد تجاوز الأربعين من عمره، مشاهداته اليومية في دمشق، في ظلّ الحرب، بالتوازي مع نص تلفزيوني يكتبه. يعود عبر النصّ بالذاكرة إلى سيرة حياة عائلته (أبو عبدو الغول ــ سلّوم حدّاد)، وعلاقته مع والدته (سمر سامي)، وإخوته الثلاثة: عبدو (باسم ياخور)، وسهيل (أحمد الأحمد)، وندى (رنا كرم)، والتحولات التي طرأت على حياتهم، وما انتهت إليه مصائرهم. ويروي العمل أيضاً حكاية عروة بثلاث نساء كان لهنّ أثر في تغيير حياته، وهنّ: هناء (دانا مارديني) الطالبة الجامعية البسيطة التي يراودها خوف دائم من الزواج، وتختفي من حياته فجأة. بعد ذلك تقتحم حياته رشا (جفرا يونس)، وهي معجبة بكتاباته التلفزيونية، وتعيش حالة خوف مستمرّة من الفقر والحرب السوريّة. كذلك طليقته رزان (مرام علي)، وثمّة أيضاً الشابّة وداد (هيا مرعشلي) التي يلتقيها مصادفةً، بعدما عرفها قبل سنوات طفلةً في الثالثة من عمرها.
الليث حجو لا يزال متمسّكاً برفضه الإدلاء بأي تصريحات صحافية منذ اندلاع الأزمة السوريّة، لكنّه أوضح لـ «الأخبار» على سبيل الدردشة، جانباً من رؤيته الفنيّة لـ «الندم»، ومنها اختياره التعبير عن المسارين الزمنيين لأحداث المسلسل، ببناءين لونيين مختلفين. فذاكرة عروة عن مرحلة (2003 ــ2011) تبدو زاخرة بالألوان، بينما تراوح ألوان مشاهداته ويومياته الراهنة بين الأبيض والأسود والأزرق البارد، في إشارة إلى «رفض هذا الفرز الوقح الذي يُراد للسوريين أن يتموضعوا ضمنه». ستكون المؤثرات الصوتية الحقيقية جزءاً من الجملة الدراميّة التي تلتقط أدقّ تفاصيل يوميات الحرب (أصوات القذائف، والرصاص، ومولدات الكهرباء). إلى جانب فريق عمله السوري، يستعين الليث بمشرف صوت و«فوكس بولر» لبنانيين، وفني (شاريو كرين) مصري. إذ يَرى أنّ تجاربه في الأعمال العربية المشتركة خلال السنوات الأخيرة كانت مفيدة على المستوى التقني رغم الانتقادات التي طاولت مضمونها الفكري، ويسعى لتحقيق معادلة أكثر اكتمالاً في «الندم» تجمع بين «التقنية العالية، والمضمون».
منذ إعلان بدء تصوير العمل أواخر شباط (فبراير) الفائت، تنقلت كاميرا الليث حجّو في أرجاء دمشق وكأنّها تريد التقاط نبض المدينة المُثقلة بجراح الحرب، من قلبها، إلى أطرافها المدمّرة (في داريا، وجوبر)، مروراً بالمدينة القديمة، وضاحية الشام الجديدة. المشاهد التي صُوِّرَت بكاميرا «اليكسا» أتى بها حجّو من لبنان، رصدت بعض يوميات الشارع السوري، وضمّت لقطات تتجنّب شاشات الإعلام المحليّة إظهارها، والتُقطَت عن بعد بعدسة 200. تفاعل فيها الناس مع الممثلين بنحو طبيعي، من دون أن يدركوا أنّهم يشكّلون جزءاً من بُنية مشهد (Reality)، يقدّم شهادة على تحولات المجتمع السوري «يجمع بين الوثائقي والدراما».
أثناء متابعتنا لعمليات التصوير بـ «بيت العطّار» حيث تركزت معظم مشاهد ذلك اليوم بين بطلي العمل محمود نصر ودانا مارديني، أدركنا أنّ زيارة واحدة لكواليس «الندم» لا تكفي للإحاطة بعوالم العمل شديدة الخصوصيّة. هذا ما كان، فبعد أيّام قليلة توجّهت «الأخبار» لزيارة موقع آخر يكشف تداخل العلاقات بين العائلة بشكلٍ أوضح، وهو «المول» أحد استثمارات تاجر اللحوم «أبو عبدو» التي تحوّلت على يد «الغول» الكبير إلى «إمبراطورية تجاريّة». هناك وجدنا متسعاً للقاء إخوة عروة الثلاثة.
ندى (رنا كرم) الابنة الوحيدة لـ «أبو عبدو الغول» التي تعيش قصّة حبّ لا تكتمل. حبيبها الذي اختارته بمباركة أهلها، رغم كونه ينتمي إلى بيئة مختلفة، يُعتقل فتنتظره لخمس سنوات، وحينما ترتبط بشخصٍ آخر يعود ويتجدّد وجعها، لكنّها تقرّر المضي إلى الأمام مع شريك حياتها. هي شخصيّة متوازنة، ومتصالحة مع ذاتها، وتواجه انكساراتها من منطق الإيمان بالقدر والتسليم بأحكامه. تقول رنا كرم لـ «الأخبار» إنّ جميع شخصيات «الندم» كتبت «بطريقة متينة، وأجمل ما فيه تسليطه الضوء على حياة السوريين وانكساراتهم قبل الحرب كعثرات الحبّ وآلام الفقد ومرارة الانتظار التي أصبحت أكثر قسوةً وإيلاماً بعدها».
تسير أحداثه ضمن مسارين: الأوّل في عام 2003، والثاني في 2016

سهيل (أحمد الأحمد) الابن الثاني في ترتيب أبناء عائلة «الغول» الذكور، يعيش عقدة الأخ الأوسط، ويشكو معاملة أبيه القاسية له، رغم اعتماده الكليّ عليه بتجارته، ويغار من المعاملة التفضيلية لأخيه الصغير عروة ويعتبره مدللاً ممسوح الشخصيّة. يسعى سهيل إلى التمرّد على سلطة الأب، وحينما يضبطه متلبّساً في محاولة سرقته، يقرّر مغادرة البلاد وترك كل شيء وراءه. يجزم الأحمد في حديثه لـ «الأخبار»، بأنّ «سهيل ليس لديه أيّ مطامع ماديّة تجاه أموال العائلة، ولم يخن الأمانة التي أوكلها إليه والده. لكنّه أراد لفت نظره عبر السرقة، واختبار أهميته لديه، فهو يرى أنّ ائتمانه على أرزاقه، ووضع كل مفاتيح أملاكه بين يديه، ليس إلا سجناً أطبق قضبانه حوله».
يتّفق الليث حجو وأحمد الأحمد على كون هذه الشخصية إشكالية، وتمثّل أحد ألغاز العمل، وتطلبت بحثاً على مستوى الأداء، لتظهير تركيبتها. سهيل لديه «عوز للحب والاهتمام، وحساسيّة مفرطه تدفعه إلى ارتكاب الكثير من الحماقات. هو يرمز إلى جيل مرتبط بقيم العائلة ودفئها، وعاش دراما حقيقية، كوّنت وجهات نظره تجاه الحياة، ويصعب تغييرها، وبهذا المنطق يخوض ما يمكن اعتباره صراع أجيال».
كذلك، التقينا عبدو الغول (باسم ياخور)، وهو شخصٌ يدرك تماماً ما يفعل، ويقتنع بصوابيته. نمّى الابن الأكبر أعمال العائلة وطوّر شكلها، وحوّلها إلى إمبراطورية اقتصادية، تخدم طموحه السياسي. يرى ياخور أنّ «الندم» يرسم «صورة بلد، من خلال سيرة العائلة التي يرصدها، و(عبدو) هو الغول الحقيقي، وشخصيته تجسّد حالة الشره إلى السيطرة والتوسع. تلك الحالة التي أصابت معظم أصحاب رؤوس الأموال بمجتمعاتنا، ودفعتهم إلى ابتلاع كل شيء حولهم دون إعارة أي اهتمام للآثار المدمّرة المترتبة على ذلك، إنسانياً وسياسياً، واجتماعياً».
هكذا يغوص «الندم» عبر شخوصه وأحداثه، عميقاً في تشريح الوجع السوري الراهن، مبتدئاً بالسؤال على لسان الراوي والبطل عروة: «ماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كلّه؟». وحقّق الإعلان الترويجي للمسلسل الذي نشرته شركة «سما الفن» أخيراً، مشاهداتٍ كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفتح الجدل باكراً حول ما استشفّه البعض من جرأته، وذهابه باتجاه تناول قضايا قد تثير حفيظة أصحاب الرؤى المتطرفة إزاء القضيّة السوريّة. بدا لافتاً أنّ الإعلان كشف معظم أوراق العمل. نسأل الليث حجو عن ذلك، فيجيبنا مبتسماً بأنّ صنّاع «الندم» أرادوا الابتعاد عن الحالة الاستهلاكية المعتادة للبروموشن، وفضّلوا مصارحة المشاهدين بما سيقدّمونه لهم، وتجنيبهم أية مفاجآتٍ لاحقة. في الوقت الذي يوفّر فيه الليث هول المفاجآت على بعض مشاهدي «الندم»، يبدو صاحب «الانتظار» مستعدّاً لمباراة مرتقبة، مع مقصّ الرقيب على الشاشات السوريّة خصوصاً، معتبراً أنّ أي مشهدٍ سيحذف، سيكون «اعترافاً بخطأ يراد التعمية عليه».
يضمّ المسلسل على قائمة أبطاله أيضاً: أيمن رضا، وأيمن عبد السلام، وجابر جوخدار، وجيانا جورج عنيد، وشادي الصفدي، ومريم علي، وآخرين. سيستمر تصويره خلال الأسبوع الأوّل من شهر الصوم، بالتوازي مع عرضه على عدّة محطّات، قد يكون بينها شبكة mbc التي أبدت اهتماماً بالعمل.