هناك مفردة ما غائبة في عرض «هدنة»، تضع المتفرج في حيرة تفكيك شيفرة ما يحدث فوق الخشبة. ذلك أنّ المشهد الأول للعسكري يامن سليمان وهو يخوض معركة ضارية وسط الانفجارات، بدا كما لو أنه قد تسلل من شريط مرئي، أكثر منه فرجة مسرحية. وإذا بنا حيال نص تلفزيوني تسلّل خطأً إلى الخشبة لجهة البناء السردي واشتغاله الحثيث على استحضار الذاكرة فقط.
ليس لدى العسكري ما يفعله، خلال هدنة مؤقتة، عدا لحظات خاطفة في تأمل ما يحدث حوله، فهو مشغول بمخطط بناء بيت يجمعه مع حبيبته نسرين فندي، بعد انتهاء الحرب. لكنه - في نهاية المطاف- يبني متراساً. المسافة الفاصلة بين معنى البيت، ومعنى المتراس، بقيت أسيرة تفكير شخصيات، كأنها لم تعش الحرب، رغم محاولات المخرج مأمون الخطيب ترميم النص الذي كتبه عدنان الأزروني وتشذيبه من الحكي نحو الفرجة، ضمن خط أفقي، بالكاد تعترضه ضربات شاقولية تؤسس لما بعدها، كي تضع المتلقي في أتون الحرب من جهة، وجماليات الفرجة من جهةٍ ثانية. الصراع بين عائلتي العسكري وحبيبته ينهض على مفاهيم اجتماعية راسخة لم تزعزعها اللحظة السورية الراهنة بوصفها سبب ما يحدث الآن، عدا مبارزة لفظية بين العسكري وعم حبيبته جمال نصّار بقيت معلّقة في فضاء اللغة، لا فضاء الخشبة، كما يُفترض. وسوف تتكرّر المبارزة نفسها بين الوالدتين لينا حوارنة، رنا جمّول في فلسفة رواقية في غير مكانها في الأصل. وحدها حبيبة العسكري ظلت خارج مرمى الفعل، أو في حالة ردّ الفعل، في أحسن الأحوال. رغم أنها فنانة تشكيلية، إلا أننا كنّا إزاء فتاة مرحة وحالمة، لم تقتلع أحلامها ريح الحرب، أو تنعكس على مراياها الداخلية، في علاقتها مع حبيبها. في فترة الهدنة ذاتها، سوف يستحضر العسكري طيف صديقه الضاحك أبداً (أسامة التيناوي) الذي مات بقذيفة، في رحلة بين حواري دمشق القديمة وعراقتها، لكن هذه الرحلة بتفاصيلها الفائضة بقيت هي الأخرى «مادة خام» لموضوع إنشاء من دون معالجة بصرية تشحن المتلقي بقوة الفكرة ودلالاتها التعبيرية. ثنائية العلم والعاطفة التي بُني عليها النص، وأسلوبية الاسترجاع خلفاً، أرهقا العرض بتصدير المعنى على حساب المشهدية. إذ يصعب أن نقع على شغل منفرد للممثل بقدر انشغاله بإيصال الفكرة، طالما أنّ العرض بأكمله ينهض على بعد تعبوي في المقام الأول، على غرار عروض سورية أخرى، اقتحمت الخشبة أخيراً. لا ننكر جهد مأمون الخطيب في إنشاء فرجة مسرحية تؤسس لتأريخ الجحيم السوري، مغلقاً القوس على اكتمال بناء المتراس في جولة أخرى من الصراع.

* «هدنة»: حتى 28 أيار (مايو) ـــ «مسرح الحمراء» (دمشق)