تتشابه الأحياء الفقيرة والمهمّشة في كل مكان في العالم. مهما تغيّرت ظروف إنشائها وأسبابها، تتّخذ غالبيتها الشكل ذاته: تكدّس بنيان، أزقة ضيقة، تهميش، بطالة متوارثة، نتائج غياب الدولة تتكدس، وكذلك ملفات وأسماء المطلوبين. الشارع بمغامراته وألعابه يجذب الجميع، يتحوّل سجناً صغيراً يتنافس فيه الأقوياء على فرض الهيبة وإثبات الوجود، وكسر الروتين. صفة «زعران» تُطلق اليوم على شباب الأزقة، أو شباب «الحفة» الذين يستندون الى الحائط، ويتهمون بإثارة المشاكل أو يتجنبهم المرء عند مروره أمامهم... هؤلاء في بيروت القديمة كانوا موجودين أيضاً، لكن الظروف كانت مختلفة، وكانوا «قبضايات».

حين قرّرت تصوير فيلمها الوثائقي «أرق» (2013 ــــ 110 د) الذي يطرح غداً في «متروبوليس أمبير صوفيل»، تخطت ديالا قشمر (1979) حاجز الرهبة والمسافة التي قد تفصلها عن هؤلاء الشبان. قررت التعرّف إليهم كأفراد، لا كمجموعات، أو «بُوَط» كما يُطلق عليهم. قد لا يخيّل لبعضهم أن هؤلاء وبعضهم مطلوب لدى الأجهزة الأمنية، وآخرين جرّبوا السجن، قد يساعدون امرأة في حمل أغراضها، يلبّون طالب خدمة، يأتون من خلفيات أخلاقية تجعلهم «يجلدون أنفسهم كل يوم» كما تصفهم ديالا، حين يدركون بأنهم أخطأوا.

زارت الخندق الغميق،
وعين الرمانة ومناطق أخرى واستغرقها البحث سنة ونصف

كي تطرق بابهم للمرة الأولى، استعانت بصديقها المحامي الذي صودف أنه يرافع عن بعض شبان حيّ اللجا. الباقي كان يفترض أن يكون سهلاً، لأن أحد الشبان أفصح بأنه بحاجة للكلام والى من يسمعه لأنّ لديه الكثير ليقوله. حين زارته ديالا لاحقاً، عرفت أنه دخل السجن. تعرّفت إلى زملائه، وعرضت فكرتها، كانت لا تزال تعتقد أنّ موضوع تصوير حياة هؤلاء الشباب قد يكون سهلاً، لكن حين أتت مع فريق عملها المرة الأولى، تم طردها.
التصوير سيتوقف أكثر من مرة، فهو ليس مستحباً في هذه الأماكن. لكن ليس هذا الرادع الوحيد: خلال الجلسة التصوير الأولى التي يسودها الصمت بعدما وافق الشباب على إجرائها في شقة، اكتشفت ديالا عمق ما يريد قوله «نكل» و«تَرَبَتّي» وأصدقاؤهم، واكتشفت ما وصفته جهلاً من جانبها في الموضوع التي أتت من أجل معالجته في شريطها.
قررت إجراء دراسة اجتماعية شاملة وبحث ميداني عن هذه الأحياء وهؤلاء الشبان، عن تاريخ هذه المناطق وأهلها وظاهرة الشبان والقبضايات والمخدرات. زارت الخندق الغميق، وعين الرمانة ومناطق أخرى. استغرقها البحث سنة ونصف السنة. تقول إنّ المادة المصوّرة كبيرة، لكنها اتخذت القرارات التي تخدم الفيلم، متخلّية أيضاً عن اللقطات التي تظهر الحيّ الصغير بكامل زواياه وتفاصيله وسطوحه.
قرّرت أن تلحق بالشبان وبخطواتهم القليلة العدد، ومجالستهم في المكان نفسه تقريباً لأيام عدة. حاولت على الأقل كسر الروتين من خلال تصوير حدث أو فعل جديد ولو أنه قد لا يكسر روتين حياة الشباب، من دون جدوى.
أبرزت تلك العلاقة بينها وبينهم وما سادها من مدّ وجزر. حاولت اكتشاف الواحد للآخر. ترى خلف استعراضهم القوة ضعفاً، ويظهرون لها أنها أصبحت واحداً منهم وأنها بحمايتهم. هذه العلاقة تفرض تعقيدات على العمل وعلى المخرج كإنسان. تقول ديالا إنّها عملت على أسس أخلاقية السينما الوثائقية التي اضطرتها لإخفاء الكثير من الخصوصيات والقصص التي شاهدتها. توضح لـ «الأخبار»: «في النهاية، دخلت بيوت هؤلاء الناس، وخصوصياتهم وهمومهم وقصصهم مع أولادهم».
رغم شهرته، لا يتعدّى حيّ اللجا كونه عيّنة من أزقة بيروت وزواريبها، بشكله وسكّانه وقصصه وتاريخه الذي أسهمت في كتابته الحرب الأهلية والتهجير بفعل الاحتلال الإسرائيلي أو النزوح من القرى الجنوبية في سبيل حياة أفضل. تحيط هذه الأحياء ببيروت المجمّلة من كلّ الجهات. يتكاثر سكانها وتزيد بطالتها. تسدّ سماءها ناطحات السحاب الجديدة وتهدد وجودها خطط البنيان والمزيد من الهوة بين الغني والفقير.
ترى ديالا أنّ الفيلم ليس فقط عن الشبان الذين صورتهم، بل عن الأطفال الذين شاهدتهم في الحيّ ينتظرون كي يأخذوا مكانهم في الزاوية ذاتها في الشارع، من دون أن تهتم أي جهة بمستقبلهم أو تنتشلهم من المخدرات. منهم من يخرج وحده بفضل صفعة ما في حياته تعيده إلى الإحساس بالمسؤولية، ومنهم من يمضي سنوات في السجن، ومنهم مَن لا يستطيع أن يكمل الطريق كما حصل مع أحد الشبان الذين صوّرتهم قبل أن يفارق الحياة لاحقاً.