غزة | لطالما قامت فلسفة الصورة على إنعاش الذاكرة وتأصيل الهويّات الشخصية والجمعيّة. ليست الصورة مجرّد التقاطة لزمنٍ تجمّد عند حدودها، ولا حكاية غابرة تفتّتت علاقتها بالحاضر، بل هي أعمق من ذلك بكثير.من هنا، انطلق «المتحف الفلسطيني» بالعمل على مشروع استكشاف الإرث البصري الفلسطيني في الداخل والشتات تحت عنوان «ألبوم العائلة». ورغم أنّ عنوان المشروع قد يحيل بعضهم على مدلولات شخصيّة، غير أنّ ثمّة كسراً للقطيعة بين ما كان وما يكون تحدثه كنوز المشروع الفوتوغرافية، خصوصاً في زمن مرتبك يعيشه الفلسطينيون تحت وطأة نظام استعماري يجْهد في سلخهم عن تراثٍ قد يستشرفون المستقبل من خلاله.

وكما أنّ الأغنية والكلمة أداة للاشتباك مع الاحتلال، فإنّ الصورة أيضاً لا تنحرف عن هذه السكّة. لذلك، وجد «المتحف الفلسطيني» المسكون بحلم التعريف بفلسطين تاريخاً وثقافةً ومجتمعاً، في «ألبوم العائلة» فرصةً للوصول إلى تراث بصري فلسطيني يهدينا إلى أزمنة وأمكنة مختلفة.
يجري فريق العمل مقابلات حيّة مع أصحاب الصور في منازلهم، بهدف تحرير الحكايات المخزونة في هذه الصور، والاستدلال على أحداث سياسية مفصليّة تؤرّخها أيضاً. ويجتاز الفريق عتبة الأرشفة وجمع الصور التي تشكّل في معظمها بورتريهات شخصيّة، متّجهاً نحو تفسير الروابط التي تحكي العلاقة بين الصورة وصاحبها في سياق أكثر شموليّة، يعمل على رصد الأنماط المعيشية والتحوّلات الديناميكية على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية.
وتمكّن المشروع الذي انطلق قبل سبعة أشهر من توثيق حوالى 3500 صورة، إذ نجح «المتحف الفلسطيني»، المدعوم من مؤسسة «التعاون»، في ترقيمها وحفظ نسخ عنها ضمن أرشيف خاص به، مُرفِقاً إيّاها بشروحات موجزة عن كلّ صورة. كما سينقل المتحف قريباً هذا الأرشيف المرئي إلى الفضاء الإلكتروني، ليستفيد منه المهتمّون والباحثون في مجال الدراسات الفلسطينية.

العنصر النسائي حاضر
بقوّة في الأرشيف

وفي جولة على هذه الصور، نجد أنّنا التقطنا حقباً زمنيّة مختلفة بكلّ أبعادها مع جانب نوستالجي طاغٍ عليها، كما منحتنا دفقات شعوريّة متنوّعة في قراءتنا لها. مثلاً، ثمّة صورة لحاجّة فلسطينية تدعى «أديل عزار» تحمل صورة ابنها سليم الذي استشهد عام 1948، بعد إصابته في قصف منطقة «دار اسليم» في يافا. وقد التقطت هذه الصورة في غزّة في أوائل الخمسينيات. كما نعثر على صورة أخرى تعود لعام 1925، وهي لأخوين يدعيان يعقوب ويوسف بربار من بلدة بيرزيت، تعكس اختلاف أنماط الحياة بين الأخ الذي عاش في بيرزيت وخدم في الجيش التركي، والآخر الذي هاجر إلى الولايات المتحدة.
واللافت في هذا الأرشيف الغني أنّ العنصر النسائي حاضر بقوّة، فنمرّ على صورة لطالبات جامعيات يؤدين تمارين إيقاعية باستخدام الدف عام 1978، كما نصادف صوراً لناشطات رياضيات ونساء أخريات بكامل أناقتهن وألقهن.
فتؤكد لنا هذه المجموعة للأسف أنّ حرية المرأة الفلسطينية تتلاشى تدريجياً مع تقدّم الزمن وتغلغل التيّارات الدينية في المجتمع. وعلى خطٍ موازٍ، تمكّن الباحث فادي عاصلة من حيازة أرشيف ثري (5000 صورة) لعائلة جمال يوسف بك علي من قرية البقيعة الجليلية، وهو ابن ضابط رفيع في قوات شرق الأردن في أربعينيات القرن الماضي.
في حديثها لـ«الأخبار»، تؤكّد مديرة المشروع رنا عناني أنّ هذا المشروع «استراتيجي للمتحف في ظلّ السرقات الإسرائيلية الممنهجة وضياع جزء كبير من الأرشيف البصرية»، مشيرةً إلى أنّ المادّة تتنوّع بين صور تعيد سرد التاريخ قبل نكبة عام 1948، وأخرى تعكس تشتّت الشعب الفلسطيني بعد النكبة، فيما تضيء صور أخرى على العلاقات الحميمية بين أفراد العائلة الفلسطينية من دون أن ننسى حياة الفنانين والموسيقيين ورابطة التشكيليين الفلسطينيين. وتعبّر عناني عن سعادتها بأنّ «ألبوم العائلة» حظي بإقبال وتفاعل واسعين من قبل الجمهور الفلسطيني، خصوصاً ممّن يعيشون في الشتات، آملةً في نجاح المشروع في الوصول إلى البقع الجغرافية التي يستهدفها كقطاع غزّة والأردن ومخيّمات اللاجئين في لبنان.