ضمن أنشطة نادي السينما الذي أطلقته «صفير زملر» في عيدها العاشر في بيروت (الأخبار 27/4/2015)، يعرض فيلمان مغربيان تجمعها تيمة الذاكرة والهوية، وإن اختلفا في شكليهما. ينخرط العملان في توجه سينمائي انبثق غداة استقلال المغرب وهو الرغبة في سبر المخيال الشعبي، وحياة المغاربة لإنتاج فيلموغرافيا وطنية تقطع مع الاستعمار.
يحكي فيلم «الحال» أي «الجذبة» (1981 ـــ 86 د ـــ 7 أيار/ مايو ــ س:18:00) لأحمد المعنوني (1944) قصة فرقة «ناس الغيوان» الأسطورية التي تعدّ ربما الأكثر أصالة وتجديداً وشهرة في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال. المخرج الذي كان أنجز لتوّه «أليام أليام» أول فيلم مغربي يشارك في «مهرجان كان»، ذهب إلى المجموعة التي كانت فقدت نجمها الأبرز بوجميع. تابع المعنوني الفرقة في حفلات عدة داخل المغرب وخارجه ليحكي «الجذبة» في أقصى تجلياتها التي انزاحت من بعدها الصوفي لتصير «حالاً» جماعية في شوارع المملكة والمسارح التي تقام فيها عروض المجموعة. عبر هذه الفرقة، حكى المعنوني قصة «الحي المحمدي» في الدار البيضاء والتحولات التي يشهدها المجتمع المغربي في تلك الحقبة. الفيلم لاقى نجاحاً في «مهرجان كان» وحاز جائزة الجمهور في «مهرجان الرباط» (1982) وأثار اهتمام مارتن سكورسيزي الذي أغرم به وبأجوائه وبموسيقى «ناس الغيوان». هذا ما دفع السينمائي الأميركي إلى اختيار أعمال الفرقة كموسيقى لفيلمه الشهير «الإغواء الأخير للمسيح».

اشتغل أحمد البوعناني على الأرشيف الكولونيالي
كما اختار «الحال» كأول فيلم يستفيد من دعم مؤسسة سكورسيزي World Cinema Foundation لترميم الأفلام وحفظ الذاكرة السينمائية العالمية. وإذا كان المعنوني قد لاقى نجاحاً وحفاوة عالميين، فقد اختار المخرج والأديب أحمد البوعناني (1938 ــ 2011) الطرق السرية في غابة الإبداع. ذهب في عمل تخييلي صرف هو «السراب» (1979 ــ 110 د ــ 14 أيار ـ س:18:00) إلى قصة من زمن الاستعمار. إنّها حكاية رجل يعثر على مبلغ مالي في كيس دقيق، لتنقلب حياته رأساً على عقب. يستمد الفيلم كل قوته من المخيال الشعبي المغربي، ومن خبرة المخرج في مجال التصوير والمونتاج. هكذا اختار تصويره بالأبيض والأسود رغم بداية انتشار تقنية الألوان. أما خصوصية «السراب» فهو أنه يستمد كل مواهب البوعناني الأخرى. ينهل السينمائي من الذاكرة الشعبية في سنوات الاستعمار، ومخيال الطفل الذي كانه، لينحت قصة عن هذه الهجرة الجماعية نحو المدن الكبرى التي انطلقت مع بداية الاستعمار في المغرب. يتقاطع الفيلم مع ما كتبه البوعناني في بعض أعماله الإبداعية، لا كتكرار، بل كدرس في كيفية تحوّل السينما عروساً للأدب. الشريط الذي يعتبره النقاد واحداً من الأفلام المؤسسة في الذاكرة السينمائية المغربية، كان الوحيد الذي أفاد من سبل التوزيع خارج المغرب، بينما ظلت أفلام المخرج رهينة الداخل. كان هذا خياراً واعياً من البوعناني، لكنه دفع ثمنه غالياً، فسينماه عانت من عدم الحفظ كما هي الحال مع شريطه «أولاد سيدي أحمد أوموسى» (1977) الذي فقد نهائياً، بينما عانى فيلمه الطويل «الذاكرة 14» من الرقابة واقتطع منه جزء كبير لتحفظ منه 30 دقيقة فقط.
لكن الذاكرة ستحفظ للرجل أنه كان أول من أراد حراسة الذاكرة الثقافية والبصرية للمغرب. اشتغل على الأرشيف الكولونيالي ليحوره ويحكي عبره قصة البلد من وجهة نظر وطنية. قدم في بدايات مشواره وثائقياً قصيراً بعنوان «12/6» (1969) يحكي حياة مدينة الدار البيضاء من السادسة صباحاً إلى منتصف النهار. الفيلم جوهرة صغيرة تأتي في سياقات أفلام كـ «عن نيس» لجان فيغو، و»برلين سمفونية مدينة كبرى» (1927) لوالتر روتمان. اهتم الراحل كثيراً بأدب الرحلة والخيال العلمي في طفولته، فظلت أعماله تبحث دائماً عن هذه الحيوات الأخرى التي يمكن الرحيل عبرها، ومثالها الأبرز روايته «المستشفى». وإذا كانت أحداث هذه الرواية تدور في مصحة، فإن شخوصها يقدمون يومياً على الرحيل بعيداً إلى آفاق أخرى في الذاكرة والخيال، ويبنون عوالم حالمة ومرعبة معاً. في 2006، شب حريق في بيت البوعناني أتلف الكثير من مخطوطاته. لكن السنوات الأخيرة شهدت عودة كبيرة إليه، هو الذي اختار العزلة في قرية في منطقة دمنات لغاية وفاته. وبفضل جهود ابنته تودة البوعناني، عثر على العديد من المخطوطات ضمنها مشاريع روائية وكتاب عن تاريخ السينما في المغربية من البدايات إلى الثمانينيات. وتعمل ابنته حالياً على أرشفتها، على أن تنشر في السنوات المقبلة.

* فيلم «الحال» لأحمد المعنوني: 7 أيار/ مايو ــ س:18:00
«السراب» لأحمد البوعناني: 14 أيار ـ س:18:00 ــ «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550