على خشبة «مسرح غلبنكيان» في «الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت»، قدمت ليلى باك أخيراً عرض «احكيلي» المونودرامي باللغة الإنكليزية، الذي شاهدناه العام الماضي ضمن «أرصفة زقاق». هو عمل يقف على التماس بين الحكواتي و«أداء المحاضرة» (lecture performance)، ويوازي بين خطوط الذاكرة والانتماء، ويفنّد بسلاسة طفولية شاعرية أزمة الجذور المتعددة.
الكاتبة والمؤدية اللبنانية الأميركيّة التي عاشت طفولتها في معظم المناطق العربية والتي حرمت زيارة لبنان في طفولتها لأسباب «دبلوماسية»، كونها ابنة دبلوماسي أميركي متزوج امرأة من لبنان، عادت الى لبنان للمرة الأولى في أوائل عام ٢٠٠٠. إلا أن لبنان كان حاضراً في طفولتها من خلال حكايا جديها اللذين تركا لبنان عام 1930 إلى واشنطن، فكان اللقاء بهما لقاءً يعيد «نُتف» بلاد. «احكيلي» هو عمل يحكمه التفاعل المباشر مع الجمهور: حين دخلت ليلى الخشبة، اعتذرت من جمهورها على التأخير، حيّت الطفلتين الجالستين في الصف الأول، عرّفت بالعرض وطلبت من جمهورها أن يكسر الحائط الرابع أي أن يتفاعل معها مباشرة. أرادت ليلى باك لهذا العرض أن يكون تكريماً لجديها اللذين كانا لها منذ الصغر وسيلةً لإعادة اكتشاف نصفها اللبناني. يغوص «احكيلي»، من خلال نص شفاف، رومانسي وطريف في آن، في ذاكرة العائلة ويستحضر على طريقة الألف ليلة وليلة حكايا الانتماء المزدوج.

عرض يقف على التماس
بين مسرح الحكواتي
و«أداء المحاضرة»
حكت عن زياراتها المتعددة للبنان، وانفصام حالات العيش التي تعكسها يومياتنا، كما ذكرت زيارتها للبنان صيف ٢٠٠٦ حين علقت هي وزوجها آدم الأميركي أثناء العدوان الإسرائيلي: هنا تبلغ أزمة ازدواجية الجذور حدّها الأقصى. أن تبقى في لبنان خلال العدوان هو جل ما كانت تتمناه في داخلها. أرادت أن تختبر معاناة جديها أثناء الحرب. حين عادت إلى أميركا، كانت الهوة بين هويتين تتسع، بين الـ«هنا» والـ«هناك».
أرادت ليلى باك أن تجعل جدتها شهرزاد تتلو حكايا لبنان في الثلاثينيات وخرافة «لبنان، سويسرا أو لؤلؤة الشرق»، أو «لبنان ما قبل الحرب». جانيت أصبحت بدورها ذات انتماء مزدوج بعد رحيلها إلى الولايات المتحدة وتأقلمها، فتعلمت اللغة الإنكليزية وعملت وهي في الستين من عمرها. حكايا كثيرة تتلوها لنا ليلى باك، في إطار غير مترابط تسلسله العاطفي. حين اكتشفت ليلى باك إصابة جدتها بالألزهايمر، سعت إلى توثيق ذاكرتها. من خلال حكايا جديها وحكايا زياراتها المتعددة للبنان قامت باك برسم تاريخ بديل سياسي واجتماعي للبنان وخاصةً عبر شخصية جدتها القوية والمفعمة بالحيوية والحياة. تلك المرأة التي قالت «عندما نريد أن نبكي نغني». الغناء لليلى هو أيضاً حكاية تتلى. الجد شكّل شخصية معاكسة للجدة، الرجل الذي يعرف كل شيء قبل حصوله والذي، فوق كل شيء، آلمته فكرة الانسلاخ عن الوطن رغم أنه هو الذي اقترح ترك لبنان.
هذا العرض حافل بقصص مضحكة وعفوية من الماضي. الجدة والجد اللذان قررا عدم العودة إلى لبنان ودفنا في أميركا لأسباب لا تزال ليلى تجهلها حتى اليوم، هما الدافع الأساسي لها للعودة بين حين وآخر إلى لبنان. اليوم، في كل زيارة لها للبنان، ترى طيف جديها حاضراً في كل مكان. لم يسع العرض لمسرحة الأشياء عبر خيارات إخراجية أو سينوغرافية ما. إنها حميمية السرد المحبوك بربط محكم وذكي، لا أكثر ولا أقل.