إذا لم نحفظ إلا ذكرى مضيئة واحدة من الحكومة اللبنانيّة الحاليّة (في غمرة الخيارات الكثيرة)، فهي الحضور الفذ، والاداء العالي، لمعالي وزير الاعلام رمزي جريج. يكفي أن ترى هذا الحقوقي والنقيب السابق للمحامين، كي يتشّ شعر بدنك: ما شاء الله، ما هذه الكاريزما يا رجل؟ ما هذه الديناميّة والحماسة والحضور الذهني المتوقّد، وسِعة الاطلاع المدهشة على أوضاع المهنة وقضاياها، والإحاطة الشاملة بفلسفة الحريّات الاعلاميّة التي يحميها تحت جناحيه الأبويين؟… عيناه تقدحان شرراً حين يأتي على ذكر الحريات، وهو وعد - ويفي كل يوم بوعده - بألا يسمح ليد السوء أن تمتد إلى الحريات الاعلاميّة في لبنان.
إنّه، بكلمة، سبع البورومبو الذي تحتاج اليه الصحافة اللبنانيّة الورقيّة، والاعلام المرئي والمسموع، والاعلام الالكتروني والبديل طبعاً، في هذه الظروف العصيبة بالذات، في قلب الأزمات المتفاقمة، وتحت وطأة سياسات التكميم والاحتواء والتركيع والأبلسة والتكفير والاحتواء والشراء والمصادرة… التي نتعرّض لها جميعاً.
لم يترك الوزير جريج فرصة صغيرة إلا وخاض فيها ببسالة معركة حريّة التعبير، حتّى قرر أن يختم مكتب الجرائم الالكترونية بالشمع الأحمر… إنّه المدافع عن استقلاليّة الاعلام في وجه كل أشكال الوصايات القمعيّة من المحكمة الدوليّة إلى سفير السعودية في لبنان… صحيح أنّه لم يكن بالأمس في عداد المتضامنين مع «الجديد» في كليّة الاعلام، ضد وصاية «المحكمة الخاصة بـ (خراب) لبنان» التي تريد أن تفرض وصاية على حريّة النشر والتعبير وتبادل المعلومات… لكن «الغايب عذره معه» كما يقول المثل. وأفضال جريج سابقة. سبق أن بيّضها معاليه في هذا الملف. كان ذلك عشيّة انطلاق القضيّة الدولية على «الأخبار» و«الجديد» لكشفهما وثائق سرّبتها المحكمة نفسها، تكشف للرأي العام آليات الاداء «الموضوعي» وغير المنحاز لهذا القضاء. يومذاك، قال لنا وزيرنا المفضّل (بتصرّف) مطمئناً وداعماً : «نحن معكم، لكن اذهبوا عشان خاطري ولاطفوا الجماعة قليلاً في لاهاي. معليش. ماذا تخسرون؟ أنتم أصحاب حق في كل الاحوال. اشرحوا لهم المسألة وعودوا. لا تخشوا شيئاً، أنا معكم. في النهاية انتم شهود لا متهمون!». عفواً؟ المسكين لم يجد وقتاً للاطلاع على الملف وقتذاك، لكن النية صافية، والعواطف أصيلة…

لم يكد ينتهي من دوشة «الاخبار»… حتى جاءته مشكلة تلفزيون لبنان


الغايب عذره معه إذاً، والوزير الغائب بالأمس عن التضامن مع «الجديد»، يحارب على جبهات أخرى. مع السفير السعودي مثلاً. وقد تسرّب أن سبع البورومبو انتهر العسيري، وأنّبه بشدّة، وأوقفه عند حدوده. «أنت سفير دولة شقيقة - قال بحزمه المعهود - على الراس والعين. أما أن تهدّد الصحف اللبنانيّة بالويل والثبور، فمين مفكّر حالك؟ الذي لا تستطيع شراءه، تهدّده؟ حلوة هالشغلة. أوتظنن نفسك مفوّضاً سامياً في وطن الأرنبيط (أرزة الكتائب)، تدوس بحذائك البترودولاري على سيادتنا وحرياتنا وكرامتنا الوطنيّة؟». لحسن الحظ تمالك الوزير جريج أعصابه ولم يضرب السفير المسالم، المرتجف كورقة في العاصفة، والا لخلق لنا مشكلة دبلوماسيّة ليس وقتها اليوم في زمن «النأي بالنفس» الذي يبشّر به الأستاذ رمزي ليل نهار. لكنّه بقي حازماً (على طريقة عاصفة الحزم): «أطالبك بالاعتذار من «الأخبار»! فهي جريدة لبنانيّة حرّة برأيها. ثم ما المشكلة إذا قالت «تنابل»؟ عم يمزحوا يا عمّي. بعدين الأقربون أولى بالمعروف. تحتمل مزاح «شارلي إيبدو» وتتضامن معها في ساحة سمير قصير، ولا تحتمل مزاح إبراهيم الأمين ورائف بدوي؟ وين روحكم الرياضيّة، وتقاليدكم الديمقراطيّة العريقة يا سعادة السفير؟». أما لئيم، ومُرافع ألمعي، يا أستاذ رمزي، برافو!…
أكرر الاعتذار من «الجديد»، فمعاليه مشغول، مشغول جداً هذه الأيام. يلعن حرب اليمن وساعتها، فقد حرمته طعم القيلولة، لذلك تغفل عينه أحياناً في مجلس الوزراء. لم يكد ينتهي من دوشة «الاخبار»… حتى جاءته مشكلة تلفزيون لبنان. يقال إن الرئيس الشهيد كان يريد بيعه للشيخ صالح كامل… ليته فعل وأراحنا من هذا العبء الزائد. ها هو المفوض السامي علي عواض العسيري يختبر مضار وجود تلفزيون وطني في لبنان لم تبتَعْه مملكة الخير. كيف تجرأ طلال المقدسي على نقل مقابلة الأمين العام لحزب الله؟ «ألم يعد أحد بوسعه أن يوقف زحف الروافض؟» سأل العسيري بأسى وغضب وزير اعلامنا المجاهد. هنا أيضاً، تسرّب إلينا أن المواجهة كانت عاصفة. مرّة جديدة أوقف ممثل الدولة اللبنانيّة السفير السعودي عند حدّه. «بخّر تمّك قبل ما تقول روافض! الكتائب حزب ديمقراطي علماني، ولا نقبل بالطائفية! أضف أننا دولة لنا سيادة، وهذه مقابلة أساسيّة تهم المواطنين، مع زعيم سياسي يمثّل شريحة واسعة من الناس. يبدو أن معاييركم الديمقراطيّة غير معاييرنا بصراحة. لنحترم الحق في الاختلاف». بمهارته المعهودة قلب معاليه الموقف. وأقنع سعادة السفير بإسم المصلحة العامة أن يعتذر الى الشعب اللبناني، ورئيس مجلس ادارة تلفزيون لبنان، على هذا التدخّل السافر في الشؤون الداخليّة.
نحن مدينون لمعاليه بالكثير، هذا غيض من فيض. ونحن معجبون جدّاً بمعاليه أيضاً. لكنّنا قلقون عليه بعض الشيء. لكثرة ما نأى بنفسه… نخاف أن يأتي يوم قريب ينأى عن نفسه. وقد غرّد أحد المتابعين، القلقين مثلنا، على تويتر: «ليته ينأى عن وزارة الاعلام». مجنون إنت؟ أتريده أن يذهب إلى وزارة العدل؟