المشاركة الفلسطينية في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الأخير كانت حاضرة بقوّة، تنوّعت بين الطويل والقصير، الروائي وغير الروائي من بينها روائي «3000 ليلة» لمي المصري. الفيلم (103 د.) لافت بالفعل، وقد يبدو لبعض متتبعي مسيرة المصري، أنّ الروائي الطويل الأول في الفيلموغرافيا الخاصّة بها قد تأخّر. بعد سنوات من العمل الوثائقي منفردةً، أو مع زوجها السينمائي اللبناني جان شمعون، تخطو المخرجة الفلسطينية فوق أرض مغايرة فنياً، لكنّها مكمّلة لمشروعها، خصوصاً في ما يتعلّق بالمرأة. تحقق التراكم، وجاء الموضوع الذي يفرض الخيار الروائي، لتقوم المصري بكتابة السيناريو بنفسها.
في ليل نابلس 1980، تعتقل المدرّسة «ليال» (ميساء عبد الهادي)، بتهمة مساعدة فتى فلسطيني متهم بقتل جندي إسرائيلي. يصدر ضدّها حكم بالسجن 8 سنوات، فتنضمّ إلى عدد من الأسيرات الفلسطينيات، منهنّ «سناء» (نادرة عمران) المعتقلة إثر تنفيذ عملية ضدّ الاحتلال. للسجن وضع خاص. إنّه مشترك بين فلسطينيات وإسرائيليات يمضين عقوبات جنائيّة. هؤلاء يتلقين معاملةً خاصّة بطبيعة الحال (احتياجات، لباس مدني...)، ناهيك بتلاصق سجني النساء والرجال، واشتراكهما بجدار واحد.
تبدأ المصائب بالتوالي فوق رأس «ليال». هي محل شك «سناء»، بسبب سماح إدارة السجن لها بالاتصال بزوجها مباشرةً، ما يستدعي سؤالاً حول ثمن ذلك. الأدهى أنّها حامل. يشترك الزوج مع سلطات الاحتلال في الرغبة بالإجهاض، إضافةً إلى شكّه في شرعية الابن أصلاً. يغادر إلى كندا، تاركاً «ليال» لولادة مجنزرة إلى قضبان السرير في مستشفى السجن. الصغير «نور» سيصبح بهجة الأسيرات. يعاملنه كابن لهنّ. ينمو تحت عسف الاحتلال، كأنّ له ألف أم. في نظر الإسرائيليات، هذا «إرهابي» جديد يصل إلى العالم.
تدريجاً، تتحوّل شخصية «ليال» من معلّمة مسكينة تحاول تجنّب المشاكل، إلى فاعلة في عالم السجن ويومياته. تصل أخبار اجتياح بيروت 1982، وتقع مجازر صبرا وشاتيلا، لتعلن الأسيرات إضراباً مفتوحاً في وجه الاحتلال. ليس لديهنّ ما يخسرنه، فهنّ يكابدن أبشع ظروف الاعتقال والتعذيب. «نور» نقطة ضعف «ليال». في المستشفى، تتعرّف إلى «أيمن» الذي لا يتأخر في إظهار حبّه لها. دراما من لحم ودم، تغلّف القضية لحمايتها من التلقين والنمط. هذا ما دأبت عليه السينما الفلسطينية الجديدة منذ بدايات ميشيل خليفي.
اختتام الفيلم بأرشيف حقيقي يضفي نكهةً تسجيليةً محبّبة

«3000 ليلة» دراما سجون قائمة على قصص حقيقيّة لأسيرات فلسطينيات منهنّ، المعلّمة «روضة البصير» التي صارت «ليال»، و«تيريز هلسة» التي تحوّلت إلى «سناء» في الشريط. هذه الأخيرة تسلّلت ليلاً من بيتها، ليس لملاقاة حبيب، بل لتنفيذ عملية ضدّ الاحتلال. بحث ما قبل الكتابة، والتصوير داخل سجن حقيقي معدّ للهدم في الأردن، والاشتغال على واقعية التفاصيل والمناخ والأداء، واختتام الفيلم بأرشيف حقيقي، يضفي نكهةً تسجيليةً محبّبة. المخرجة آتية من هذا الملعب مع سجّل حافل بعناوين مثل «أطفال شاتيلا» (1998) و«أحلام المنفى» (2001) و«33 يوماً» (2007)، وأكثر من 60 جائزة دولية، بما فيها جائزة «تريل بليزر» من «كان»، وجائزة «شاشة آسيا والباسيفيك» في استراليا.
في السياق، نتورّط مع نماذج أخرى. «أم علي» جدّة لحفيدين يقضيان العقوبة في السجن الملاصق. شقيقتان عنيدتان في النضال، وأم طامحة للخروج بأيّ ثمن. على الجانب الآخر، نمرّ بإسرائيليات متباينات الطبع والحدّة والشراسة، من الكارهة حتى الأقصى، إلى المتحوّلة إيجاباً إثر شعورها بالامتنان تجاه «ليال» التي أنقذت حياتها، وصولاً إلى المحامية «راشيل» التي تدافع عن الفلسطينيين رغم فقدها ابناً في خضمّ الصراع. هو نفس اسم إحدى أشهر المحاميات الإسرائيليات التي دافعت مبكراً عن الأسرى الفلسطينيين. هذا ذكاء يُحسَب لمي المصري في الأنسنة وكسر النمط. نعم، هناك صراع دموي، ولكن المواقف الإنسانية تفرض هامشاً معيناً من التضامن. تماماً، كما يفرض الواقع القاتم جرعة قليلةً من الميلودراما، التي حاول الشريط الابتعاد عنها. هذا ليس مأخذاً، بل سياق طبيعي لطبيعة الظرف والمكان وتراكم القهر. كذلك، يأخذ الفيلم وقته في بعض المفاصل. كان يمكن لبعض التفاصيل الصغيرة والمشاجرات أن تكون أكثر تكثيفاً، من دون أن ينفي هذا نجاح الإيقاع في اصطياد المتفرّج حتى النهاية.
رموز التحرّر والخلاص حاضرة برفق ورويّة. الحصان ذو الأجنحة. عصفور الطيران. الرسم على جدار المنفردة. اسم البطلة «ليال عصفور» نفسه، التي تلد «نور»، وتتحوّل تدريجاً إلى «سناء». نشيد «يا ظلام السجن خيّم» الذي ألّفه السوري نجيب الريّس، متحدياً الاحتلال الفرنسي من منفاه في جزيرة أرواد عام 1922.
على مستوى الأداء، تؤكّد ميساء عبد الهادي أنّها ممثّلة قادرة على عيش الشخصية، والإمساك بها حتى النهاية. في «مهرجان دبي السينمائي الدولي 2011»، نالت جائزة أفضل ممثّلة عن «حبيبي رأسك خربان» لسوزان يوسف. مع نادرة عمران ورائدة أدون وعبير حداد وهيفاء الأغا وأناهيد فياض، يحملن الفيلم على أكتافهنّ. ممثّلات الأدوار الإسرائيليّة كلهنّ من عرب 48. التصوير (جيل بورت) ينجح في المخاتلة الدراميّة بين الظل والضوء، والتكيّف مع تضاريس السجن، ليظهره رحباً حيناً، وضيقاً كقبر أحياناً. موسيقى (شريف صحناوي) تدخل بخفّة في الوقت المناسب.
«3000 ليلة» يعيدنا إلى المقاومة كما يجب أن تكون. بين 1980 و1988 (فترة الفيلم التي تصوّر للمرة الأولى من هذه الرؤية)، لم يكن لأوسلو وجود رغم كل الهزائم. العمل الفدائي مفتوح أمام النساء كما الرجال، أمام اليسار كما الجميع. تحسين ظروف الاعتقال يتحقق بالإضراب. تحرير الأسرى يتمّ بالمبادلة لا بالاستجداء. لا مساومات سياسيّة هزيلة، أو احتكار للمقاومة باسم الجهاد الديني. وفق هذا فقط، تتمكّن «ليال» من النضج والصمود، وتطريز أفق فلسطيني واعد على الجدار. تفتح ذراعيها لمطر الخلاص والتعميد، قبل أن تخرج إلى النور.