تطلق عازفة الفلوت السورية الفرنسية نيسم جلال (بالاشتراك مع فرقتها «إيقاعات المقاومة») ألبومها الجديد «أسلوب حياتي» (تمويل «آفاق») مقدّمة لغةً موسيقية جديدة بعض الشيء، وإن حافظت على النمط الشرقي. عرفت جلال لدى أغلب العاملين في المجال الفني في لبنان والعالم العربي كونها تعاملت واشتركت وحتى أسست فرقاً سابقاً، فمن تعاملها مع عازف البيانو الشهير فتحي سلامة وفرقتي «بلاك تيما» و«الدور الأول» (أسهمت في تأسيسها) المصريتين، إلى لينا شماميان السورية، ومغني الراب اللبناني ريّس بيك، إلى تعاملها الطويل مع فرقة الراب الفلسطينية «كتيبة خمسة»، ولاحقاً تعاملها مع «أسلوب» في ألبوميه «فصل» و«ع الحفة».
باختصار، أمضت العازفة الشابة عمراً طويلاً تتعامل مع الموسيقى. منذ حداثتها، تلقت دراساتٍ متعمّقة في الموسيقى. درست الناي العربي في «المعهد العالي للموسيقى» في دمشق مع الأستاذ المعروف مسلّم رحّال (2003)، لتتابع لاحقاً تخصصها في الموسيقى العربية مع عازف الكمان المصري الشهير عبده داغر (2005). هي تدرك تماماً «حرفتها»، ومن يسمع الألبوم يمكنه ببساطة ملاحظة شيئين أوليين: ذكاؤها موسيقياً وقدرتها على التكيّف مع طبيعة «المراد قوله». ينسحب هذان الأمران على الألبوم بكامله، فهي تعرف طبيعة الوطن العربي الذي عاشت فيه طويلاً (قضت كثيراً من الوقت في مصر ولبنان وسوريا). تكمن طبيعة المستمع الشرقي في حبه لسماع الحكايا. من هنا كانت علاقته بالموسيقى وفقاً لمدى قربها من «حكايةٍ» ما. مثلاً في معزوفة «زيارة صباحية» Visite matinale، تحس في البداية أن الموسيقى تأتيك على عجلٍ. هناك «فجرٌ» يبزغ هنا. شيءٌ تود سماعه في صباحك، حال استيقاظك. فجأة (وفي الدقيقة 1:35 تحديداً) تحس أن الأمور قد تغيّرت إلى ما بعد الاستيقاظ: هناك أحدٌ يندهك باسمك: هي زيارة صباحية، زيارةٌ من حبيبٍ لحبيب. هل تشرب القهوة؟ أو ماذا عن قليلٍ من حزنٍ صباحي؟ في الدقيقة 2:40، تسألك العازفة الشابة عبر موسيقاها: هل ستأتي؟ فلنحتسِ القهوة معاً، ما رأيك؟ هل تزورنا؟ إلى هذا الحد تستطيع موسيقى نيسم جلال الولوج إلى داخل مشاعر مستمعيها.
تغير نيسم اللعبة أكثر من مرّة، تلاعب جمهورها كما لو أنها في حفلة «مباشرة». تغيير النمط هو دليل «ذكاء» والميزة الأكثر بروزاً في جميع ثنايا الألبوم. في مقطوعتها Parfois c›est plus fort que toi تتغير طبيعة الموسيقى كلياً. هنا نتحدث «جاز»، تخيّم روح الستينيات والسبعينيات، ونينا سيمون، وبيللي هوليداي وتشيت بيكر، وبيغي لي، وايلا فيتزجيرالد. تشعر بأن أسلوب «موسيقى الحانة» الذي اشتهر في تلك الفترة، يعاد عبر نيسم ولو بلغتها الشرقية الخاصة.

يضم الألبوم
مقطوعة بعنوان
«أم الشهيد»

ماذا عن الشعوب الشرقية والآفرو- شرقية؟ بالتأكيد سيظهر هذا السؤال نظراً إلى قرب نيسم من رموز الغناء والعزف الأفريقي. هي عملت سابقاً مع عازف الباص الكاميروني هيلير باندا، وعازفي الغيتار البوركيني عبدالله تراوري، والنيجيري كيالا، وعازف البيانو المالي شيخ تيديان سيك. تعرف نيسم أفريقيا جيداً، فقربها من هؤلاء العازفين، جعلها تقدّم معزوفتها «بدوٌ رحّل» لتتحدث عن علاقة الصحراوي بصحرائه. نسمع موسيقى تشبه حياة أولئك الرحّل الباحثين عن الكلأ والماء، البطء في العزف حيناً والصخب والرقص حيناً آخر. إنها علاقة صاحب الأرض بأرضه، تلك التي لا يفهمها إلاه. في لحظةٍ ما، تلاحق الموسيقى أفعى تغوص في الرمال ويراقبها البدوي الراحل من المكان، الذي تشعر بأنه يرحل راقصاً في ضوء الشمس الساطعة. لكن في المعزوفة نفسها، نجد أن «المسحة الشرقية» التي تريد نيسم إبقاءها في ألبومها موجودة.
أما في «سماعي غريب» Etrange Samaaï، فتعود بك الموسيقى إلى عصور الشرق والسلاطين المهيبة وقصورهم الفارهة، لكن في الإطار نفسه تتذكر المغني الشرقي السوري (تحديداً من حلب) صبري مدلل، كما لو أنه يغنّي في خلفية الموسيقى. تشعر بروحه الغنائية في أصل الموسيقى، هل كانت نيسم تتقصد ذلك؟ ابنة قرية كفر نبل تعرف ذاك النمط من الغناء الشرقي وتفهمه جيداً، لذلك لم يكن لربما غريباً أن تضعه في متناول مستمعيها. إذا كان بحث المستمع عن «اللغة الشرقية الموسيقية»، فسيجد ضالته في هذه المعزوفة بالتأكيد.
ولأن «الاستشهاد» جزءٌ من ثقافة المجتمع الشرقي اليوم، تقدّم نيسم مقطوعتها «أم الشهيد». تبدو موسيقاها مختلفةً عن بقية الألبوم، فهي تنقسم إلى معزوفتين (الأولى لغاية الثانية 0:44) تبدأ الموسيقى كأنما هناك أحدٌ يسأل عن شيءٍ ما، ينادي على أحدٍ ما: لكن لا جواب. الجزء الثاني يغير كل شيء خصوصاً عند الدقيقة 1:25 حين تبدأ بسماع صوت الدف مترافقاً مع صوت تنفس العازفة الشابة، تشعر بأنك ترغب بمعرفة عمَ يتم السؤال. هناك أمرٌ يحدث، والموسيقى ترسم الحدث في عقلك كما لو أنها موسيقى تصويرية لفيلم.