تونس | فجعت الأسرة المسرحية التونسية والعربية والأفريقية صباح أول من أمس الأحد برحيل المسرحي عز الدين قنون الذي يعد إحدى التجارب البارزة في المحترف التونسي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي. قدم عدداً مهماً من الأعمال المسرحية التي عالجت الراهن التونسي والعربي بلغة فيها الكثير من الشعرية، كما أمضى حوالى أربعين عاماً من حياته في التعليم المسرحي.
عز الدين قنون الذي رحل عن عمر يربو على الستين، يعدّ من أبرز خريجي «مركز الفن المسرحي» في تونس. إنّه تلميذ الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري. بعد حصوله على دبلوم من «مركز الفن المسرحي» في تونس عام ١٩٧٦، سافر الى فرنسا حيث التحق بالمسرح الوطني في ستراسبورغ على الحدود الفرنسية الألمانية بإدارة جان بيار فنسان بالتوازي مع الدراسة الأكاديمية في جامعة «السوربون ٣» في باريس. حاز الإجازة في الدراسات المسرحية عام ١٩٨٠، وعاد الى تونس ليلتحق بوزارة الثقافة. لكنه اكتشف بعد فترة قصيرة أنّه لا يستطيع أن يكون موظفاً، فانسحب من الوزارة وأسّس عام ١٩٨١ فرقة المسرح العضوي ونجح في إعادة إطلاق قاعة «سينما الحمراء» (افتتحت عام ١٩٢٢وهي ثاني أقدم قاعة سينما في تونس) التي كانت مهددة بفقدان صبغتها الثقافية مثل عشرات الفضاءات التي ضاعت وتحولت إلى مخازن للملابس ومقاه ومطاعم للوجبات السريعة.

تحولت «قاعة الحمراء» إلى مركز إشعاع ثقافي تونسي وعربي وافريقي وسط الساحات المكتظة بالسلع الصينية والباعة الهامشيين في تقاطع شارع ألمانيا والجزيرة وسط العاصمة.
وبالتوازي مع التعليم وفتح القاعة لشبان قادمين من الدول الافريقية والعربية في إطار «المركز العربي الأفريقي للتكوين والبحوث المسرحية» الذي استفاد من خدماته مئات الشبان في مجال التكوين في مختلف الاختصاصات المسرحية، واصل قنون الإنتاج الذي بدأه من مسرح الهواية عام ١٩٧٠. قدم أعماله الأولى في إطار المسرح المدرسي وجمعيات الهواية، لكن التجربة الكبرى بدأت بعد عودته من فرنسا، فكانت «الصفقة» (١٩٨١) و«ليلة ضائعة تعود» (١٩٨٣)، و«خرّفني يعيشك» (١٩٨٥) و«الدالية» (١٩٨٦) و«قمره طاح» (١٩٩١) و«المصعد» (١٩٩٤) و«طيور الليل» (١٩٩٦) و»حب في الخريف» (١٩٩٧) و«نواصي» (٢٠٠٠) و«لنتكلم بصمت» (2003) «رهائن» (٢٠٠٦) التي تواصلت عروضها طيلة سنوات.
قدم عز الدين قنون أعماله في أهم المهرجانات العربية من بيروت الى القاهرة الى الرباط وبغداد وعمان وحاز تتويجات كثيرة، ووصل بأعماله المسرحية الى فنزويلا وباريس والسينغال وساحل العاج. ووسط هذا التجوال والشغف بالخشبة، سجل حضوره في السينما التونسية عبر بعض الأدوار والأفلام التي تحتفظ بها ذاكرة الجمهور التونسي والعربي مثل شريط «شيشخان» لمحمود بن محمود والفاضل الجعايبي، و»موسم الرجال» لمفيدة التلاتلي، الفيلم القصير «خميسة» لملكة المهداوي، و»أوديسة» لابراهيم باباي. طيلة مسيرته، نأى بنفسه عن السلطة وظل مدافعاً شرساً عن حرية الإبداع واستقلالية الفنان، وحُرم غالباً من دعم الدولة بسبب مواقفه، لكنه لم يتراجع ولم يهادن السلطة. وبعد الانفجار الكبير الذي عاشته تونس وما زالت تعيش تداعياته في «١٤ يناير» 2011 المعروف بـ «الربيع العربي» الذي قاد الاسلاميبن الى الحكم، قاد قنون مجموعة من المبادرات الثقافية والمدنية منها «الائتلاف المدني ضد العنف» الذي تأسس بعد سحل ممثل حزب «حركة نداء تونس» في تطاوين (جنوباً) لطفي نقض من بعض أنصار حزبي «حركة النهضة» و«حزب المؤتمر» وما يعرف بـ «ميلشيات حماية الثورة».
كان قنون نصيراً دائماً للقوى التقدمية والمدنية المؤمنة بالنظام الجمهوري وبفاعلية المثقف والفنان في التغيير الثقافي. حلم بتونس مختلفة بلا عنف ولا اغتيالات ولا قمع، وعمل من أجل ذلك في مجاله الثقافي والمسرحي طويلاً. لكن الموت هزمه هذه المرة. لقد آن للفارس أن يرتاح!