الرباط | في الشقة 113 من الطبقة السادسة من المبنى 11 في شارع مرس السلطان في الدار البيضاء، انطلقت فعاليات «مدرسة الأدب». هذه الشقة هي مقر جمعية «عين السبع» الذي يحتضن دورياً الكثير من الأحداث الثقافية. هذه المرّة، أرادت مؤسسات ثقافية بديلة تشارك في «مدرسة الأدب»، أن تنطلق فعاليات الحدث من مبنى مصنع «الإخوة لوغال للأثاث» الذي تُطل عليه شرفة «عين السبع».
حاملةً حلم تحوّل الفضاءات المهملة في الدار البيضاء إلى أمكنة للإبداع والخلق، انطلقت هذه الدورة من اللقاءات السنوية لـ«مدرسة الأدب». لكن الأقاويل التي تروّج لفكرة أنّ ملكية مبنى المصنع تعود لأفراد من الأسرة المالكة في المغرب، عجّلت ربما في قرار تدميره نهائياً. هكذا، انطلقت أعمال الهدم مع انطلاقة الحدث الثقافي. قرار أثار حفيظة بعض الناشطين للحفاظ على الذاكرة العمرانية للمدينة.
رشيد الأندلسي، المهندس المعماري ورئيس جمعية «كازا ميموار» للحفاظ على التراث العمراني، عبّر عن استيائه من هدم المبنى «الذي يعد رمزاً من رموز الصناعة في المدينة»، علماً بأنّ «كازا ميموار» (ذاكرة الدار البيضاء) كانت قد طالبت وزارة الثقافة قبل ثلاث سنوات بتسجيل المبنى ضمن التراث المعماري المغربي «وهو ما استجابت له الوزارة، وكان يُنتظر تطبيق الخطوة».
تشكّلت «مدرسة الأدب» حول مبنى مصنع «الإخوة لوغال» الذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وجعلته العنصر الأساس في إبداعات الدورة. وكان المنظمون يهدفون إلى خلق مجال للحوار عبر ندوات ولقاءات وورشات ثقافية، إضافة إلى مساحة للإبداع بين الفنانين والتشكيليين والكتّاب والمترجمين والأنثربولوجيين حول المبنى المذكور، ولفتح النقاش حول علاقة المبدع بالمدينة، في ظل فقدان الذاكرة الجماعي الذي يحدث في المغرب.
وفيما انطلقت الفعاليات مع حلقة دراسية قدّمها الكاتب والمترجم عمر برادة حول «علو النظر» في علاقته بالفضاء، كانت كل من الشاعرة الأميركية سارة ريغس وزميلتها المصرية آية نبيه تقدّمان ورشة حول «كتابة الأحلام». المفارقة أنّه بينما كان شبّان يبنون خلال ورشة أخرى مجسّمات للمبنى التاريخي مع الفنان التشكيلي ومدير«عين السبع»، حسن ضرسي، كانت أيادي عمّال البناء في الأسفل تدمّر ما تبقى من المبنى.
«مدرسة الأدب» مستمرة حتى نهاية نيسان (أبريل) المقبل، بمشاركة الكثير من الفنانين والكتّاب المغاربة والعرب والأجانب، منهم مخرج الأفلام الوثائقية علي الصافي، والكوريغراف مريم الجزولي التي تشارك جمعيتها «درجة» في تنظيم اللقاء، إضافة إلى الموسيقي عبد الله هصاك، والمهندس اللبناني طوني شكر، ومجموعة كبيرة من أساتذة العمارة، والأكاديميين والفنانين. سيقدّم هؤلاء إمّا عروض أداء، أو ندوات، أو يُعَرِّفون بالتحوّلات التي تعرفها المدن وانبعاثاتها، فيخلق كل مشارك نصاً أو موسيقى أو فيديوات أو فوتوغرافيا عن المكان.
لكن أصحاب مشروع التدمير أرادوا أن يكون هدم المبنى جواباً بليغاً على الفن، وأن تتحوّل المعاول «المشروعة» إلى طريقة لهدم الثقافة، وخصوصاً جوهرة أخرى من جواهر «كازابلانكا».
وفي الوقت الذي تحافظ فيه البلدان الأخرى على ذاكرتها المعمارية بوصفها خط وَصْل بين الأجيال، تفقد الدار البيضاء يوماً تلو آخر معالمها التاريخية التي جعلتها في بداية القرن الحالي واحدة من ورشات الحداثة المعمارية. هكذا، تهاوى فندق «لنكولن» أيقونة التاريخ الدبلوماسي للمدينة، وغيره من المباني، بينما لا يزال مشروع تحويل «المجازر البلدية القديمة» إلى فضاء ثقافي معلقاً رغم نضال منظّمات المجتمع المدني منذ أكثر من عشر سنوات لبلوغ هذه الغاية. ربّما لن يُحافظ المبنى على حياته، رغم أنّه أوّل مبنى شُيّد بالإسمنت المسلّح في المغرب. كما لن يُمنح أبناء الأحياء الهامشية والفنانون الشباب قلعة صغيرة تحميهم من سلطة المال والمضاربين العقاريين. وبينما تُهمل مبانٍ مملوكة للدولة حتى تتهاوى، تُنقل أراضي الدولة إلى القطاع الخاص ليبني مهاجع من الإسمنت. كما لو أنّ الأغنياء لا يتركون فرصة لتذكيرنا بأنّ رأس المال سيقبر أحلام أهل الدار البيضاء بثقافة حرّة، وبحفظ الذاكرة الجماعية.