سلسلة من اللوحات الشخصية بين الأكريليك والغواش يقدّمها عمر خوري في معرضه الفردي «٦١ وجهاً من وجوه الشتاء» الذي تحتضنه «غاليري أجيال». صاحب «صالون طارق الخرافي» عرفناه كعضو مؤسس لمجلة «السمندل» ومشارك رئيس فيها. خلال الفترة الأخيرة، بدأنا نتعرف إلى لوحات البورتريه التي رسمها لعدد من السياسيين والفنانين والأصدقاء حوله. كان من بينها ديبتيك «رفيق وحافظ» و«سعد وبشار»، وأخرى للسيد حسن نصرالله، ولوليد جنبلاط وغيرهم. أمّا اليوم في «أجيال»، فتنحصر الرسومات ببورتريهات ذاتية يتخللها من وقت إلى آخر ظهور لزوجته فيها. في مشروع سابق، رسم خوري عدداً من البورتريهات الذاتيّة، لكن بالاستناد إلى انعكاس صورته في المرآة. لحظة الانتهاء من هذه الرسوم، أيقن عمر أن عينيه ثابتتا الموقع في جميع اللوحات، فيما يتغير باقي ملامح وجهه.
حينها، قرر أن ينتج فيديو متحركاً يثبّت فيه العينين داخل الصورة، فيما تتبدل تفاصيل وجهه مع تبدل اللوحات في الفيديو، منتجة بذلك ومجتمعة وجوهاً عدة لوجه واحد. انطلاقاً من تلك التجربة، وكلما سنحت له الفرصة، كان عمر يعمد إلى الاختبار في رسم البورتريهات الذاتية إلى أن تمّت دعوته في شتاء ٢٠١٣ إلى إقامة فنية في فرنسا لمدة شهرين. هناك، واظب خوري على رسم بورتريه ذاتي كل يوم، لكن هذه المرّة انطلاقاً من صورة رقمية، بدلاً من الاستناد إلى الانعكاس في المرآة، لا بل انطلاقاً من صورة «سيلفي». خلال إقامة الشهرين هذه، كان عمر يلتقط كل يوم صورة له عبر هاتفه المحمول، تختلف في سياقها وخلفيتها، وطبعاً في تعابير وجهه خلال تلك اللحظة، ومشاعره أيضاً. هكذا تظهر اللوحات المعروضة في «غاليري أجيال» من اليمين إلى اليسار تبدلات وجه الفنان خلال شهري الشتاء ذاك، متضمنةً مشاهد من داخل غرفته، وأخرى في السوبرماركت، أو خلال حلق ذقنه. وفي أول ظهور لبورتريه لا يعود إلى الفنان، نشاهد بورتريهاً لامرأة ليست سوى زوجة الفنان التي افتقدها في عيد العشاق، فقرر رسم لوحة لها عن صورة كانت بحوزته. ثمّ تظهر الزوجة مجدداً في لوحات أخرى إلى جانبه خلال زيارات تبادلاها بين باريس ولندن حيث كانت تقيم هي. في بادئ الأمر، انطلق عمر بالرسم عبر الأكريليك. وكان كلمّا انتهى من لوحة، وضع ألوانه جانباً ليعود إليها في اليوم الثاني، فيعيد استعمالها بعد إضافة ألوان أخرى كلما نفدت إحداها. من هنا، نجد تسلسل الألوان المتقاربة في اللوحات المتقاربة في الزمن. وفي إحدى المراحل، كان يشعر بالشوق والحزن، فقرر الانتقال إلى «الغواش» ليبتعد قليلاً عن الألوان القاتمة، ونغوص معه في وجوه تعجّ بالحياة. جميلة جداً هي لوحات عمر خوري، تحملنا معها في رحلة تخبط المشاعر داخل وجه واحد خلال شهرين من الزمن، وتدخلنا عبر تفاصيلها إلى عوالم ذاتية قرر الفنان أن يشاركنا بها حميميته. استبدال خوري لمرآته بصور «السيلفي» تحديداً، ليس خياراً عفوياً، لا بل هو مهمّ جداً ضمن سياق معرضه. تتميز «السيلفي» عن سائر الصور الفوتوغرافية بتركيزها على تفاصيل الوجه وعدم إيلائها اهتماماً كبيراً بما يدور حولها. هي توثّق تفاعل وجه ملتقطها مع ما يدور حوله من دون أن يكون المشاهد على دراية تامة بالسياق. كذلك بسبب سهولة التقاطها، وتحوّلها إلى موضة، أغرقت صور «السيلفي» مواقع التواصل الاجتماعي لتتحول توثيقاً شبه يومي لحالة ملتقطها، تأسر بداخلها حالات نفسية متعددة، وتمتد على خط زمني واضح. بذلك، تشكّل صورة «السيلفي» عبر تدفقها وارتباطها بالزمن، أحد أبرز أوجه إعادة التمثيل التي نعرفها اليوم. أما فعل عمر خوري، فيكمن في فترة رسم لوحته. بين الثانية الواحدة التي تحتاجها «السيلفي» لتتشكل، ومدة العشرين دقيقة حتى الساعتين التي كان عمر يستغرقها في رسم لوحته، تتشكل مساءلة فعل إعادة التمثيل. عمر لا يهدف إلى تأمين بديل عن الصورة في اللوحة كما فعل غيرهارد ريختر، لكنه في كل لوحة يعيد ترجمة حالة الوجه ومشاعره وأحاسيسه في حرية اختبار تمازج ألوانه ضمن لوحته. وبذلك تستعيد تلك اللحظة التائهة بين ملايين «السيلفي» الملتقطة يومياً حضورها الخاص، وبالتالي تمثيلها الخاص. لا يقدّم خوري مجرد رسم لبورتريهات ذاتية أسوة بتلك التي عرفها تاريخ الفنّ لكل رسّام، بل يغرقنا في 61 بورتريهاً متلاصقة في الزمن. إغراق معاصر يبحث ضمنه عمر خوري عن ذاتيّة وفرادة كلّ صورة/ لوحة.

* «٦١ وجهاً من وجوه الشتاء» لعمر خوري: حتى 28 آذار (مارس) ـ «غاليري أجيال» (الحمرا) ـ 01/345213