في الخلفية صورة كاريكاتورية لصحافي «مسكين» يجلس على مكتبه وفوقه سكين مسلط على رقبته هو «قانون المطبوعات». وفي المقدمة قاضيان: قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين، ورئيس محكمة الاستئناف في بيروت الناظرة في قضايا المطبوعات روكز رزق، وبينهما محامية الاستئناف شذى الطفيلي التي سجلت مداخلة لبضع دقائق. هذا مختصر مشهد الندوة التي أقيمت الأسبوع الماضي في «بيت المحامي» (المتحف) تحت عنوان «حرية الإعلام والرقابة القضائية»، مع تسجيل فاضح لغياب الطرف الأساسي في القضية أي الإعلام. بحضور محامين متدرجين، انهمرت عبارات المديح والثناء على حرية التعبير والصحافة في لبنان وأهمية تكريسها قانونياً ودستورياً، والتشديد على دورها في المجتمع وتوعيته. هكذا، تدللّت الصحافة في مستهلّ الندوة، قبل أن تطرح مداخلتا القاضيين المذكورين مجموعة إشكاليات تتساءل عن مدى تطويع النصوص القانونية للاقتصاص من هذه الحرية وهامشها في كشف الفساد والمفسدين. هذه النصوص باتت سيفاً مسلطاً يكرّس سياسة كمّ الأفواه بل أكثر: محاسبة الصحافيين بـ «جرم» القيام بواجبهم عبر تسمية الأمور بمسمياتها.
بداية، عرض القاضي رزق مواد قانون المطبوعات الصادر في 14-9-1962 الذي عدّل تحت المرسوم الاشتراعي 104/77 الذي عدّل بدوره أيضاً. كان التركيز على المواد المعدّلة من 51 الى 70 التي تخصّ جرائم المطبوعات والرقابة عليها وعلى مداخيلها. وبما أنّ أغلب «الجرائم» في هذه المحكمة يقع ضمن خانة القدح والذم أو التشهير، فقد استفاض رزق في الحديث عنها والتمييز الذي يجريه القانون بين «الموظف» و«الإنسان العادي» في هذه القضايا. فإذا كان الذم أو القدح أو التشهير بحقّ «موظف»، تتحرّك الدعوى من دون الحاجة إلى ادعاء شخصي ضمن إطار الحق العام. هذا بخلاف حصول القدح بحق شخص عادي أو معنوي. في هذه الحالة، يتحرّك القضاء بعد ادعاء الشخص المعني. علماً أنّه في قضايا عدة خاضتها الصحافة، بقيت محكمة المطبوعات تعتمد على المادة 583 التي «لا تسمح لمرتكب الذم بتبرير نفسه بإثبات حقيقة الفعل». وهنا، يلفت المستشار القانوني لصحيفة «الأخبار» نزار صاغية إلى أنّ المحكمة أصدرت عدداً من القرارات الإعدادية التي تطلب فيها «إثبات صحة الخبر» في التعامل مع قضايا موظفين عامين كما حصل مع الصحافيين محمد نزال ورشا أبو زكي (الأخبار 25/2/2014). أما بخصوص التشهير بأشخاص عاديين أو معنويين كما حصل مع «الجامعة الأميركية في بيروت» أو مع قضية «سبينس»، فقد أشار صاغية إلى أنه يتم العمل على قلب هذا الاجتهاد بمعنى القدرة على التشهير طالما ثبت الفعل وقضت المصلحة العامة ذلك.
في هذه النقطة بالتحديد، يرى محامي جمعية «مهارات» طوني مخايل في اتصال مع «الأخبار» أنّ محكمة المطبوعات تناقض نفسها في التبجيل بأهمية دور الصحافة ثم تقّوّض عملها عبر منعها من إصدار أحكام على الفاسدين مثلاً مع توفر الأدلة والإثبات. ووفق مخايل، يحق للصحافة ممارسة مهماتها في كشف الفساد. هذا الأمر قيّده رزق خلال حديثه عن البرامج التلفزيونية التي وصفها بأنها «تخلط بين السلطة القضائية وبين ما يسمى السلطة الرابعة» عندما تبث وقائع يتم تبنيها والحكم عليها من خلال هذه البرامج.
لعلّ الطامة الكبرى تكمن في التضعضع الذي أصاب المحاكم واختصاصها لا سيما في الشقّ المتعلق بالنشر الإلكتروني.

الصحافي يقاضى اليوم
ولو امتلك المستندات التي تدين الشخص المشهَّر به
تارة، تحوّل قضايا النشر الالكتروني إلى محاكم عادية كما حصل مع المدّونة رشا كامل أو إلى «مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية والملكية الفكرية» كما حصل مع الناشط جان عاصي أو تحوّل إلى محكمة المطبوعات التي في الأصل هي بعيدة عن الإعلام الجديد بل منسلخة تماماً عن حركة التدوين ومواقع التواصل الاجتماعي. هذا ما أظهره رزق خلال حديثه عن هذه المواقع، معتبراً أن كل ما ينشر عليها ضمن «السياق العلني» (public) يحق للمحكمة ملاحقته في حال خالف القانون. وهنا المشهد مطاطي لا يميز بين الصحافي والناشط والمدوّن، وبين الآراء والمواقف والاتهامات المبنية على إثبات. علماً أن مشروع قانون الإعلام الجديد الذي قدمته «مهارات» الى المجلس النيابي يميز في الإعلام الإلكتروني بين المواقع المهنية والأخرى الإلكترونية التي «تستخدم فيها الآراء كالمدونات الشخصية». في هذا الإطار، يعتبر مخايل أنّ الجميع سواسية في الحقوق أكان ناشطاً أو صحافياً، لكنّه يميز هنا بين إعطاء الرأي «الذي لا يوجب تقديم إثبات» (ضمن نطاق المقبول) وبين إصدار حكم أو اتهام يوجب تقديم الإثبات والأدلة. وانتقد مخايل تحويل هذه القضايا كلها إلى محكمة المطبوعات، مع أنه يفضل أن ينظر فيها «قضاة منفردون» بغية «تطوير الاجتهاد». ولفت إلى أنّ قانون الإعلام الجديد شدد على أن تتم المحاكمة على ثلاث درجات (البداية، الاستئناف، التمييز)، طالباً من محكمة المطبوعات أن تتوسع في نصوصها خدمةً لحرية الرأي والتعبير، وأن لا تظل محصورة بأشخاص، غير متفاعلة مع وسائل الإعلام ولا مع حركة التواصل الاجتماعي. من هنا، كان عضو مجلس نقابة المحامين ناضر كاسبار اقترح خلال الندوة بأن تتضمن محكمة المطبوعات ممثلين عن نقابتي الصحافة والمحررين على غرار المجالس التحكيمية. ورغم أهمية هذه الخطوة، إلا أنّه ماذا ستقدم للصحافة في ظلّ الواقع المزري الذي تعيشه كلا النقابتين؟ يعلّق صاغية على هذا للاقتراح، واصفاً إياه «بالهرتقة القانونية» بينما رآه مخايل بداية اقتراح «من دون جدوى» شرط «إعادة النظر في النقابتين الحاليتين».
وبالنظر إلى واقع الحال والقوانين البالية السائدة اليوم، ماذا يحصل للجسم الصحافي؟ يلفت محامي «مهارات» إلى أن الصحافي اليوم يقاضى ولو امتلك المستندات التي تدين الشخص المشهَّر به، مضيفاً أنّ القوانين الحالية جعلت هذا الصحافي «ضعيفاً» بمعنى أنّ المحكمة لا تنظر اليوم في تثبيت الوقائع التي كشفها الصحافي، بل إنّها لا تستكمل إجراءاتها لجمع المزيد من الأدلة بل تطلب من الصحافي ذلك. ومن الواجب ـ وفق مخايل ـ أن يتمتع الصحافي بهامش أوسع وأن تعمل المحكمة على مساعدته في جمع الأدلة والإثباتات.
في المقلب الآخر، وفي الإضاءة على أبرز ما قاله قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين لا سيما في قضايا القدح والذم والتشهير، فقد أشار إلى أن محكمة الأمور المستعجلة تخضع للقضاء المدني. وفي بعض الحالات، تدخل قضايا المطبوعات التي تتضمن حصول ضرر ضمن صلاحيات محكمة الأمور المستعجلة التي تعمل على منعه. دخل زوين هنا في قصة الرقابة المسبقة على الإعلام وجزم بأنّه لا يحقّ لمحكمته فعل ذلك. لكنه عاد ودخل في قضية «المصلحة العامة» التي على أساسها، يتم تسويغ أو منع حصول فعل التشهير. ناقض نفسه في نقاط عدة أبرزها دعوته وسائل الإعلام إلى مخالفة قرار قد يصدر لمنعها من النشر في حال اعتبرت نفسها على حق، ثم التحدث عن كوننا «مجتمعاً شرقياً» قد يسبب التشهير بشخص «ضرراً طيلة حياته وصولاً إلى عائلته ومحيطه الاجتماعي». ووفق زوين، يجب أن يتحرك القضاء بما أنّ الضرر غير قابل للتعويض (كرامة الشخص). لم يجزم زوين قصة «المصلحة العامة» بل حاكها على مقاس محكمته، فقال إنّه لا يجوز التشهير بشخص عادي حتى لو كان فاسداً، بل يجب الذهاب في هذه الحالة إلى «سبب العلّة» والمسؤولة عن هذا الشخص بمعنى أنه ممنوع على الصحافي مثلاً التشهير بلحام فاسد، بل يجب هنا ملاحقة «الهيئات الرقابية» المسؤولة عنه.
في هذه النقطة بالتحديد، قال زوين إنّ يجب على الذين اختاروا العمل في الحقل العام أن يتحملوا النقد. أما الأشخاص العاديون، فلا يجوز التدخل معهم. وهنا، يطرح السؤال حول مفهوم الحقل العام وإطاره، فهل هذا اللحام الذي ذكر في سياق حديثه لا يدخل ضمن الحقل العام والتأثير بفساده على شريحة معينة من الناس؟ يلفت مخايل إلى أنّ القانون الجديد وسّع مفهوم «الشخص العام» الذي قد يطاول كل الشرائح المجتمعية بحسب درجة تأثيرها، وأن الفيصل هنا يكون للمصلحة العامة ووجوب التشهير به أكان فرداً أو موظفاً.
في الخلاصة، لم تقدم ندوة «حرية الإعلام والرقابة القضائية» إلا صورة عن الكاريكاتور الذي أرفقته في خلفية محاضريها: المزيد من التشدد وتقويض حرية العمل الصحافي بأدوات قانونية قديمة، وسط غياب النقاش بين الإعلام والقضاء، وضخ دماء جديدة في شرايين هذا القضاء كفيلة بمواكبة حركة الإعلام الجديد بكل تفرعاته. من هنا، تُطرح إشكالية مهمة: لماذا صارت محكمة المطبوعات في بيروت المحور رغم وجود محاكم مماثلة في كل المناطق اللبنانية؟ هل يتعلق الأمر بالاتجاه المعروف مسبقاً لهذه المحكمة، فيلجأ المدّعي إليها كونها لا تمارس إلا مزيداً من التقويض بحق العمل الصحافي؟