بيوت سمر مغربل (1958) مهددة بالاندثار. لعلّ هذا القاسم المشترك الوحيد بين أعمال معرضها «من دون آثار» الذي يستمر في «غاليري أجيال» (الحمرا ــ بيروت) حتى 28 شباط (فبراير) الجاري. تتبع النحاتة اللبنانية بيوتاً بيروتية على طريق الزوال، مواصلة اشتغالها بالسيراميك على الهواجس المدينية والسياسية، بعيداً عن التجريد.
شاهدنا هذه الاهتمامات في منحوتات سياراتها المفخخة، المستوحاة من تفجيرات السياسيين خلال العقد الماضي (نالت عنها الجائزة الأولى «معرض الخريف» في «متحف سرسق» عام 2007). عملت، أيضاً على ثيمة الربيع العربي، فجسدت جيوش المتظاهرين في مواجهة عسكر السلطة. كذلك لم تغب بيروت عن شرائطها الأنيمايشن أكانت تلك التي شاهدناها في مهرجان «بيروت متحركة»، أو على «يوتيوب»، أبرزها فيلم قصير يسترجع منزل العائلة في الصنايع.
في معرضها الفردي الجديد، أنجزت 14 مجسماً من السيراميك لبيوت متروكة أمام ديناصورات العاصمة الإسمنتية التي لا نعرف عن نمطها المعماري شيئاً سوى اللون الرمادي والعلوّ الجاهز لتسديد أرباح المستثمرين. اختارت الفنانة بيوتاً شبه مفقودة، رغم وجود هياكلها في القنطاري والحمرا والصنايع والوتوات وزقاق البلاط والبسطة والمنارة. بعثتها من جديد، موثّقة لأبنية أسيرة حقبات ماضية مختلفة، كالاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي وفترة الاستقلال. وهنا يكمن جزء من أهميتها.
أهمية الشاهد الذي رأى تحوّلات المدينة، فلم تكافئه سوى جهود مجموعة من التشكيليين والفوتوغرافيين والسينمائيين والفنانين، المسكونين بماضي المدينة وجمالها.
اختارت مغربل بيوتها من تلك التي تفرض أنفسها على أعيننا، كل يوم، بسبب غربتها عن العمارة السائدة. هذا التنافر بين الأبنية الهجينة والبيوت المعزولة في بيروت، يطالعنا بشكل مباشر في المعرض، من خلال سينوغرافيا العرض. في «غاليري أجيال»، نقلت المشهد المديني العام باختصار وبترميز واضح. أبنية داكنة من دون ملامح، تقزّم منحوتات مغربل وتخنق الرؤية على المتفرج. وبهذا، تتخذ مغربل موقفاً منحازاً من مشهد العاصمة، ليصب معرضها في صميم النقاش الإنساني والجمالي، قبل السياسي والاقتصادي الذي أثارته ورشة «إعادة الإعمار»، وخطواتها المدروسة في تفتيت الذاكرة، كأنها تشير إلى هول الهوة التي لم تعرف المدينة الجديدة كيف تردمها.
تعيد مغربل القيمة المسلوبة من المنازل، فتفسح مساحة خاصة ومقرّبة لكل منها. مجسماتها بأحجام صغيرة، تضاعف الإحساس بالحنين، كأنها صور موتى أمام الخلفية السوداء. أنجزت هياكلها بدقة مدهشة بالنسبة لمادة السيراميك، فابتعدت عن النماذج الهندسية أو الملصقات الإعلانية للمشاريع السكنية التي تظهر الأبنية في حالاتها الأولى المكتملة. هكذا ظهّرت أرواحها، كما تبدو خلال السنوات الثلاث الماضية، بفنية عالية تقترب من الرسم ومن دون حاجة إلى إنجاز منحوتات للسكان. إلا أن حميمية النحت قد تجرنا إلى البحث عن وجوه خلف الشبابيك، أو على الشرفة، أو في أي من العناصر المعمارية الخارجية التي نجحت بنقل تفاصيلها بسخاء، كالجدران وألوانها والدرجات. عناصر تتجاور مع ملامح المنازل الفردية وقيمتها الداخلية التي حافظت مغربل عليها. نقلت الندوب التي خلفتها السنوات، وثقوب الرصاص، والانهيارات، أو ملصق كبير لعبد الناصر يعلو إحداها. إنها أنسنة الحجارة التي فرضت علينا، في المعرض، نظرة أخرى للبيوت. رأينا عن قرب بيت الصنايع، والبيت الزهري على المنارة، والمنارة القديمة، والبيت الأصفر الشهير، ومنزل الوتوات بشرفاته الدائرية... جنحت النحاتة اللبنانية بالسيراميك نحو مكان آخر، فأنجزت بيوتاً هي صورة رمزية لكل ما تبقى من بيروت الجميلة. كأنها ترد الجميل لها، وتحفظ ذاكرتها، قبل فقدانها، في توثيق لم يخضع لقيمة البيوت المعمارية بقدر قيمتها الإنسانية قبل كل شيء.

* « من دون آثار»: حتى 28 شباط (فبراير) ــ «غاليري أجيال» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/345213