رام الله | يشهد هذا العام خروج عدد من الأفلام الفلسطينية التي تحاول جذب انتباه العالم إلى القضايا التي تشغلها. وتأتي هذه الأفلام في سياق الاهتمام العالمي الجديد بالسينما الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية. كان من الطبيعي امتداد هذا التسارع في الإنتاج الفنّي المحلّي ليصل إلى قطاع غزّة، كونه يشكّل أرضيّة غنيّة يمكن عبرها إبراز رواية فلسطينية جديد وفريدة ومليئة بالأحداث والقصص غير المحكية. أفلام يُعتبر وجودها تحديّاً كبيراً كونها خرجت في العام الذي شهدت فيه المدينة حربها الأشرس على الإطلاق.
هكذا، قرر المخرج الشاب محمد الجبالي من مدينة غزّة، أن ينضم إلى طاقم وحدة إسعاف ميداني أثناء عملها في العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزّة في تموز (يوليو) الماضي. من دون أي فرصة للفهم أو التحليل، كانت كاميرا الجبالي تدور من موقع مواجهة مشتعل إلى آخر، متعرّضاً مع طاقم الإسعاف لخطر الموت خلال كل ثانية.
يشكّل الجبالي تجربة غزيّة جديدة وفريدة. عبر عمله المكثّف في مجال صناعة الأفلام، استطاع أخيراً أن يتغلّب على حالة اليأس والإحباط المسيطرة على الحياة اليوميّة في غزّة، وقام بصنع فيلمه الطويل الأوّل في ظروف شبه مستحيلة، ومجنونة تماماً. يرتبط الفيلم التسجيلي بالفكر الفني الجديد الذي بدأ بالتوسّع في أوساط الفنانين الفلسطينيين الشباب، والقائم على عدم التركيز على صورة الدم، بل على الوجه الأكثر إيلاماً من صور الأشلاء، وأيضاً على الجمال الروحي الذي يحاول المحتل تشويهه يومياً وبكل شراسة، وذلك عبر شخصيّة «أبو مرزوق»، سائق الإسعاف والشخصيّة الرئيسيّة في الفيلم.
شريط وثّق المجازر الأخيرة وليلة تدمير حيّ الشجاعيّة


«شاهدت الكثير من الأمور المروّعة، ولم أكن أفكر في إنجاز الفيلم في ذلك الوقت» يقول الجبالي الذي غادر إلى النرويج بعد تلقّيه دعوة للالتحاق بدورات قصيرة في صناعة الأفلام. هكذا وجد الشاب الغزي نفسه أمام الخيار الذي لا يقل صعوبة عن الحرب نفسها، وهو العودة مجبراً إلى مشاهدة اللقطات التي صورها في الحرب بعد أشهر معدودة على انتهائها. مشاهد لا تزال تشتعل يومياً في عقول من عاشها فعلاً. جاء ذلك بعدما عُرضت عليه المساعدة في توليف الفيلم لقاء عرضه للمرة الأولى في أضخم مهرجان سينمائي في النرويج هو «مهرجان ترومسو السينمائي الدولي» الشهر الماضي. حينها، شهدت القاعات التي عرض فيها الشريط حالة دراميّة من التأثر الذي تطوّر إلى بكاء شمل الحضور المتنوّع الجنسيات الذي بات حديثه كله، مع الوقت، عن الفيلم الفلسطيني الذي تسبب في حالة فريدة ومؤلمة من العجز الذي يتبع مرحلة كشف الحقيقة الغائبة.
يتحدّث الجبالي عن الليلة الأسوأ في الحرب، هي ليلة تدمير حيّ الشجاعيّة شرق مدينة غزّة. كان يرافق الطاقم الطبيّ هناك منذ الليلة السابقة، واستطاع أن يعيش تفاصيل النكبة الفظيعة التي حلّت في هذا الحي المكتظ بالسكّان. نكبة دفعت المخرج الشاب إلى القيام بدور لم يضعه في حسبانه، وهو مشاركة المسعفين في انتشال الضحايا. هذا الأمر الذي عرّضه للإصابة المباشرة من شظايا صاروخ مفاجئ، كان سيحوله إلى رقم يُضاف إلى قائمة «الصحافيين» الذين قضوا في الحرب الأخيرة.
مع الجبالي، نحن أمام حالة موغلة بفلسطينيتها. ولربما كانت هذه هي النقطة التي تثير الجدل المستمر حول السينما الفلسطينية؛ هل هي فلسطينية حقاً أم لا؟ في الفيلم، يقوم الجبالي بعرض قضيّة معبر رفح الذي يعد إحدى مشاكله الشخصيّة، ومشكلة جميع سكان قطاع غزة. دفع الحسّ بالمسؤولية الجبالي نحو الإسراع في إنجاز الفيلم الذي بدا من المستحيل انجازه في ذلك الوقت، لأسباب نفسية ولوجستية. ولأنه فيلم تسجيلي بالأساس، تم تصويره بلا سيناريو أُعد مسبقاً. ترشح «إسعاف» لجائزة «السلام النرويجي»، من بين 11 فيلماً مشاركاً. قد يصبح هذا الفيلم هو المرجع المستقبلي الكبير الذي استطاع توثيق الحرب الأخيرة بكامل تفاصيلها، من خلال المكان الأكثر ملاءمة لهذا الهدف: سيارة «إسعاف».