في عمله السادس رقصاً وتصميماً، يقدّم مالك العنداري عرضاً بعنوان «امرأة تحت السطر» يترافق مع عزف حي لزياد الأحمدية وباشراف فني لعايدة صبرا. على خشبة «مسرح مونو»، حاول المصمم والراقص اللبناني أن يوظف الرقص الفولكلوري وتحديداً الدبكة في حلة حداثوية تبتعد عن الاستعراض التراثي المعهود وتقترب أكثر من السرد الذي لا يتعدى بُعدَي الجسدِ الباحثِ عن لغة مختلفة والسينوغرافيا المتقشفة. يقدم هذا العرض الراقص قصة فتاة في الحقبة العثمانية تقع في غرام شاب، على الطريقة «الضيعاوية» بكل ما فيها من كلاسيكيات الفرجة وحبكتها: الحب من النظرة الأولى على حبل الغسيل، دور النسوة وأهل الضيعة في ثنايا القصة، هروب الشاب من الأتراك، وقوع الفتاة في الحمل، محاولة إجهاض فاشلة، عودة الحبيب محملاً بالأموال ليكتشف أن لديه طفلاً، اعتقال الأتراك لأهل الضيعة، إغراء الحبيب للأتراك بالمال، وإغراء الابن بالمال والنهايات السعيدة. في خلفية كل حدث، تظهر المرأة كما لو أنها العنصر المستضعف من قبل الرجل رغم قوتها في مواقف كثيرة.
هذا النوع من القصص والمشاهد قد يحوّل ما يُعرف بمشهد كلاسيكي إلى مجموعة من الكليشيهات، خصوصاً أنّ الجمهور اللبناني مشبعٌ بحكايا أو مشاهد مماثلة أكان عبر الدراما اللبنانية أو الكليبات الغنائية. وهنا تبدو مهمة العنداري صعبة منذ البدء: أن يحافظ عبر الدبكة/ التعبير الجسدي وعبر المعالجة الدرامية على القيمة الكلاسيكية لتفاصيل قصته وينأى بها عن الكليشيهات.
المفارقة أنّ العنداري الذي بحث عن «كودات» جسدية مختلفة للدبكة وقع في فخ كليشيهات التعبير الجسماني. هكذا، بدا عدد من المشاهد مكرراً وdéjà vu رغم محاولات خجولة لم تبلغ خواتيمها في إضفاء معنى وبعد آخرين للإيماءات الجسدية الخاصة بالدبكة. نذكر مثلاً مشهد الخطوات الأولى للطفل مع والدته أو المشهد الذي يلي إخفاؤه خلف حبل الغسيل...
كيف نعبّر عن الحزن، عن مخاض الولادة، وعن الخطوات الأولى للرضيع بواسطة الدبكة؟ كيف يمكن لهذا النوع من الرقص الجماعي - الذي يعتمد القدم ركناً أساسياً في تحديد حركة الجسد وعلاقته مع بقعة فضاء ضيقة- أن يرسم لنا حياة فرد بكل انفعالاتها؟
ليس ذلك بمهمة سهلة وذلك خيار يحسب لصالح المصمم والراقص الشاب. لكن ربما وجب على العنداري أن يبحث أكثر في تلك الأسئلة من دون اللجوء إلى التعبير الجسماني كحل لمعظم مشاهده. عليه أن يجيب في عرضه وإن جزئياً على السؤال التالي: هل من الممكن أن نحمّل الدبكة أبعاداً وسيمات جسدية مختلفة؟ وكيف؟
العزف الحيّ الذي قدّمه
زياد الأحمدية من العناصر الأكثر حساسية وجمالية في العرض

على صعيد آخر، أجاد العنداري استخدام السينوغرافيا والإضاءة وبعض الأكسسوارات لصالح لحظات فرجة ممتعة بعضها أضحك المشاهد وأدهشه رغم وقوع بعضها الآخر مجدداً في فخ الكليشيهات. وبدا جلياً أن العرض ارتكز إلى العنداري رقصاً وأداءً: لعب الأخير دور المهرج/ الراقص في آن معتمداً على نمط الـ Burlesque، ما أضفى دينامية حركية مختلفة، في حين بقي أداء باقي عناصر الفرقة متوقعاً في تنميطه رغم البراعة والخفة اللتين تمتعت بهما رومي الأسود (لعبت دور الفتاة وأم الطفل) على سبيل المثال. كانت الموسيقى التي قدمها زياد الأحمدية في عزف حي على الخشبة من العناصر الأكثر حساسية وجمالية في العرض: موسيقى تحيل المشاهد على تلك الأنامل التي تنقر على العود، الأكورديون، الباص والإيقاع برقة وهدوء لا يخلوان من إظهار أحاسيس متناقضة ومتوترة. ذلك أنّ زياد كان دوماً يعيد النغم إلى بساطته الأولى والأجمل. رغم صعوبة وتعقيد عزف بعض المقطوعات (من الناحية التقنية) التي ألفها زياد خصيصاً للعرض، كانت الموسيقى تنتقل إلى مسمع المشاهد بانسيابية قل مثيلها، ما زاد من صعوبة عمل المصمم مالك العنداري الذي أراد أن يذهب بالدبكة والفولكلور إلى أماكن لم تبلغها بعد أقدام الراقصين وأجسادهم. إذ تعوّد المشاهد والراقص معاً على أن ترفق الدبكة بنمط موسيقي يعتمد غالباً الإيقاع السريع وآلات النقر. وهذا خيار أيضاً يحسب لصالح البحث الذي يقوم به العنداري نحو استنباط «كودات» مختلفة في الرقص الفولكلوري.
في كل الأحوال، يبقى «امرأة تحت السطر» مسودة عرض تحتاج مزيداً من البحث الذي يجب أن يستكمله العنداري مع سائر أعضاء الفرقة في إطار نبش لغة جسدية مختلفة تضفي على الفولكلور بعداً مختلفاً من جهة، وتوضح وتمتّن اللحظات الدرامية للقصة والنأي بها عن الكليشيهات الجسدية والمشهدية من ناحية أخرى. وهذا مخاض لا بد لصاحب العرض أن يختبره. وللمناسبة، فإنّ جهود العنداري تُحترم رغم تخبطها لأنها تنبئ ـ اذا ما استكملت ـ بولادة جنين فولكلوري مغاير.



* «امرأة تحت السطر»: 20:00 مساءً حتى 22 شباط (فبراير) ــ «دوار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/391290