خلاصات مهمة كثيرة يمكن الخروج منها بعد «جلسة» مع الشيخ شفيق جرادي. لدى مدير «معهد المعارف الحكميّة» ما يفاجئ به كثيرين دائماً. بعد محاضرته «نظرة إسلاميّة لنزعة الإنسان إلى العنف» التي نظمها معهد العلوم الدينيّة في «جامعة القديس يوسف» ضمن سلسلة محاضرات «ثلاثاء الكليّة» أول من أمس، فوجئ كثيرون أصلاً أنه من مؤيدي «حزب الله» عندما أعلن ذلك في ختام محاضرته، رغم «ما في هذه التجربة من أخطاء»، مع أن علاقة الشيخ بالحزب لا تخفى على عارفيه ومتابعيه.
هذا الالتباس لا يتحمله جرادي بل هو ــ بطبيعة الحال ــ انعكاس طبيعي لصورة الحزب «الذي يقاتل». والقتال في العرف والمبدأ من صنوف العنف، وإن كان الشيخ بدأ من هنا بالذات، أي التمييز ــ فلسفياً لا سياسياً ــ بين «استخدام القسوة» أو اللجوء إلى القوة، وبين العنف. ولم يفته التذكير، بطبيعة الحال، أن «الإرهاب» صفة تستخدم في غير موضعها أحياناً. والقول الأخير بحسب المنهج التفكيكي الذي اعتمده جرادي ــ أي رفض «الإرهاب» بمعناه المجاني إذا أُطلق تعميماً ــ لا يلغي إدانة صاحب القول للعنف المجاني أيضاً، أو العنف لخدمة الأبعاد السُلطويّة. في أكثر من مكان، أشار جرادي إلى أنه من تلك المدارس التي ترفض اقتطاع الأحكام من النصوص على قياس أهواء الحاكم، وإن كانت الحاكميّة خارج موضع النقاش.
لا تناقض في الإسلام بين مفهوم «الأمة» و«المواطنة» بمعناها الغربي
وهذا يفسر استخدام الشيخ الهادئ مصطلحاً فريداً وغير متداول، كمدخل لمقاربته، حين لاحظ «مزاجية تكثيف الشِعار»، للدلالة على الجموح قصداً للإضاءة على أجزاء من النص، أو التفسير بالرأي، كما يسمى هذا النوع من العلاقة مع النص الديني. وهذا الاقتطاع بالتحديد، في السائد اليوم، «هو أسباب سطوع العنف على صورة الإسلام»، وإن كان العنف، كموضع دراسة، ليس إسلامياً في التاريخ، بل إنساني بالدرجة الأولى. وتلك حقيقة لا تحتمل الالتفاف ولا تحتاج إلى شواهد وأسانيد.
وفي النقاش الذي كادت أن تحوّله أسئلة المشاركين من «فلسفي» إلى «سياسي»، أجاد جرادي إعادة الأمور إلى نصابها في أكثر من مرة، معلناً أن رأي الإسلام الحاسم في مسألة العنف هو الإنكار والرفض، فالعنف ليس أمراً عقيديّاً إنما إجرائي. وبهذا، أصبحت إضافة «الفارق الأخلاقي» أمراً ممكناً، بين «استخدام القوة» وبين «العنف». وإن كانت معرفة الذات ضرورية لمعرفة الله، كما يؤكد جرادي، في طرحٍ على حافةٍ الهيغلية، فبرأيه، يجب الاعتراف بالعنف كجزء من المكون البشري وعدم وضعه على الرف أثناء الدراسة، ذلك رغم أن الشيخ وقع في فخ التناقض، عندما استغرب إطلاق صيحات التكبير أثناء الذبح، ما أعطى انطباعاً بأن الإسلام لم يكن عنيفاً في تاريخه، وتلك صورة يوتوبيّة. وكي لا يحسب هذا اجتزاءً من كلامه، يتوجب التوضيح أنه حاول التمييز دائماً بين العقيدة والإجراء، بحث أن الأصل في الإسلام «أن لا يبادر المسلمون إلى القتال»، ومسألة القوة في هذه الحالة هي مسألة تدبيريّة. وعلى هذا الأساس، لم يجد جرادي في النصوص ما يحرّض على الذبح، في إشارةٍ منه إلى أن هذا النوع من العنف هو عنف فائض عن العقيدة.
كان واضحاً أن خطاب الشيخ شفيق جرادي ليس خارج الزمان والمكان الذي يتحدث فيه، بل هو خطاب موجه رغم منهجيته. فكما استغرب «الذبح» كعنف مفرط، واضعاً هذا النوع في إطاره الاجتماعي أكثر من الديني، تطرق إلى استحضار الله وأسطرة الأحداث باسمه. بيد أن ما قصد به أصوليّة «داعش» وأخواته، في هذه النقطة، ينسحب في الدائرة الإجرائيّة نفسها، على «حزب الله» هو الآخر. منهجياً، «كان علماء السنة أكثر متانة في قراءة العنف بالإسلام من علماء الشيعة»، غير أن الإسلام «اليوم في أزمة»، بسبب تصدر «مسلمي الشوارع» للمشهد. وهذه إحدى الخلاصات التي يحسب لجرادي شجاعته في الوصول إليها بسلاسة ومن دون أي عصابيّة مذهبيّة، أو دينيّة حتى، خاصةً أنه أشار في مكانٍ آخر إلى أن لا تناقض في الإسلام بين مفهوم «الأمة» وبين «المواطنة» بمعناها الغربي. ولكن الحال أن «الإسلام في أزمة». و«نحن الآن في العتمة، ماذا يمكن أن يرى المرء في العتمة؟»، ختم جرادي محاضرته.