حصاد الثقافة 2015 | لفرط حجم الأهوال التي عشناها، نكاد لا نتذكّر متى بدأ العام وكيف انتهى؟ بلاد تنهض من رمادها كل يوم. تستيقظ على انفجار، وتنام على قائمة ضحايا جدد، وفي الوقت المستقطع بين جحيمين، هناك من يغامر بالعيش ككائن ثقافي مشغول بأوهامه. بروفة مسرحية تتأجل بسبب انقطاع الكهرباء، وعرض يُلغى يوم الافتتاح بسبب قذيفة وقعت في محيط المسرح وعطّلت المولد الكهربائي، وشعراء يذهبون إلى الحانات لإلقاء أشعارهم، ودور نشر تُمنع من المشاركة في بعض معارض الكتب العربية، وحروب قبليّة في مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات الفضائيات بين «المهاجرين والأنصار». كان أدونيس دريئة ثابتة للتصويب على «لا ثوريته» بحملات متتالية آخرها الاحتجاج على منحه «جائزة ريمارك للسلام» الألمانية. ولم يسلم الشاعر نزيه أبو عفش من حملات مشابهة، كما حفر بعضهم قبر محمود درويش واتهموه بموالاة النظام في زياراته الدمشقية القديمة (!). هناك لعنة أخرى، أن تموت في المنفى وحيداً. هكذا رحل التشكيلي محمد الوهيبي في برلين بعد هجرته إلى هناك بأشهر، ثم لحق به عمر حمدي "مالفا" الذي غاب في فيينا، ليكون لنا حصّة في مقابر المنافي، كما في المقابر الوطنية برحيل التشكيلي غسان السباعي، والشاعر عمر الفرّا، والروائي باسم عبدو، فيما انتعشت السوشال ميديا بحكايات الهجرة، وأنماط الموت السوري كمادة بصرية دسمة، يمكن استثمارها في مطحنة المحنة.
إبادة الآثار ونهبها وتهريبها واحدة من أوجه لعنة الحرب وأهدافها

عين العدسة ستبقى مفتوحة على الجحيم، من يومٍ إلى آخر. احتلّ التكفيريون مدينة تدمر، إحدى أقدم المدن الأثرية في العالم. حطّموا التماثيل والنصب وقوس النصر، ثم أعدموا حارس الآثار خالد الأسعد. هكذا ساقوا الرجل الثمانيني على الطريق نفسها التي كان يسلكها لسنواتٍ طويلة، نحو المتحف، الطريق التي سلكتها قبله الملكة زنوبيا مكبّلة بأصفادها إلى روما. في الساحة، أقاموا عرضاً جماهيرياً شبيهاً بالعرض الذي قدموه قبل أشهر في المدرّج الأثري، لحظة إعدام أسرى من الجنود، لكن هذه «المونودراما» كانت أكثر دموية، إذ انتهى العرض بقطع رأس الرجل، ثم تعليق جسده على أحد الأعمدة في الطريق العام. إبادة الآثار السورية، ونهبها وتهريبها واحدة من أوجه لعنة الحرب وأهدافها. أن تحوّل الجنّة السورية إلى جهنم، وأن تصنع من طريق الحرير طريقاً لأنابيب الغاز. على المقلب الآخر، وكنوع من «التعفيش الثقافي»، هناك من سطا على مكتبة الروائي الراحل عبد الرحمن منيف. البيان الذي أصدرته رفيقة دربه سعاد قوادري يكشف عن مأساة ثقافية في العمق، بفقدان كنوز من الوثائق والكتب والحوليات النادرة التي تضمها مكتبة الروائي الراحل التي تربو على نحو 15 ألف كتاب عن طريق تصوير بعض الوثائق والمخطوطات والموسوعات القديمة، واستبدالها بالأصل. عملية النهب هذه طالت كل ما هو نفيس: نسخة نادرة من القرآن، مجلات قديمة محتجبة، وكتب فنيّة مقتناة من متاحف العالم، بالإضافة إلى سرقة الأوراق والرسوم الشخصية لمنيف، ومخطوط غير مكتمل، كان الكاتب الراحل قد بدأ الكتابة فيه، عن مدينة دمشق، ورسائل كان تبادلها مع عدد كبير من الكتّاب والفنانين والأصدقاء، ومذكرات ويوميات كانت قيد النشر.
أحوال العوز والتهجير أطاحت مكتبات شخصية كثيرة لمثقفين مجهولي الاسم. تجد كتبهم على أسوار أرصفة الكتب المستعملة، كما انتعشت تجارة الكتب المقرصنة. لكن هذه الفوضى لم تحل دون طبع كتب ثم سحبها من التداول، كما حصل لكتاب «رحلة ابن جبير» الذي أصدرته الهيئة العامة السورية للكتاب، بسبب احتجاج بعضهم على آراء الرحّالة المصري المتشدّدة بخصوص بعض المذاهب الدينية. وستطبع الهيئة رواية «المياه العائمة» للكاتب الراحل صميم الشريف، فإذا بها تثير زوبعة عابرة حول محتواها الذي اعتبره من قرأ المخطوط، يسيء إلى تاريخ دمشق، ليتبين لاحقاً، بأن المخطوط خضع لتعديلات وتمّ حذف فصل من الرواية. معركة من هذا القبيل، كان لها أن تثير سجالاً ساخناً حول الرقابة وحرية التعبير، لكن حال الاحتضار الذي تعيشه المؤسسات الثقافية، أقصى المبادرات الخلّاقة جانباً، لمصلحة الهشاشة والوافدين الجدد إلى الساحة لملء الشواغر. على المقلب الآخر، تمكّن منذر مصري من طباعة مجموعته الشعرية «داكن» (دار أرواد) التي أُعدمت في مطبعة وزارة الثقافة، قبل نحو ثلاثة عقود، كما صدرت الأعمال الكاملة للشاعر الراحل رياض الصالح الحسين في مبادرة من «دار المتوسط»، وأهدى عادل محمود قراءة، مختارات من أعماله الشعرية بعنوان «أنا بريء كسراب» (دار التكوين)، بالإضافة إلى أعمال روائية لخالد خليفة «الموت عمل شاق» (العين- القاهرة/ نوفل- بيروت)، ولينا هويان الحسن «الذئاب لا تنسى» (دار الآداب)، وهزوان الوز «كتاب دمشق: حاء الحب، راء الحرب» (دار الفارابي)، كما استعاد محمد ملص جانباً من مكابداته السينمائية الأولى في «دهشة الأبيض والأسود» (دار نينوى).
سنتذكّر أفلاماً مهمة، شاهدناها هذا العام، أبرزها «العاشق» لعبد اللطيف عبد الحميد، و"الرابعة بتوقيت الفردوس" لمحمد عبد العزيز (جائزة لجنة التحكيم الخاصة من «مهرجان الإسكندرية»)، و«بانتظار الخريف» لجود سعيد (جائزة «مهرجان القاهرة»)، فيما شهدت الخشبة المسرحية عروضاً كثيرة، سيصمد منها عرضان، هما «دائرة الطباشير القوقازية»، و«زجاج» لأسامة غنم.