القاهرة | خمس إلى ست سنوات، استغرقها المخرج طارق العريان لإنجاز فيلمه الجديد «أسوار القمر» وطرحه أخيراً في الصالات المصرية. سنوات تغير فيها الكثير بدءاً من الظرف السياسي المحيط، وصولاً إلى شكل وتطور أبطال العمل منى زكي، وآسر ياسين، وعمرو سعد، وسلوى محمد علي. هذا الأمر شكل تحدياً كبيراً لصناع الفيلم (كتابة محمد حفظي وتامر حبيب)، خصوصاً أن الشريط ينتمي إلى أفلام الإثارة والتشويق.
لكن جودة النص الذي عمل عليه أكثر من مؤلف وحبكته، وذكاء طارق العريان المعروف ببطئه في إنجاز أعماله (آخر عمل قدمه للسينما كان «تيتو» عام 2004)، جعلت «أسوار القمر» يتألق عبر إيقاع محكم، وسرد مليء بالمفاجآت والتحولات الدرامية. هكذا، احتل الفيلم المرتبة الثالثة في إيرادات شباك التذاكر في مصر.
هو الحب الذي يكتب الأشخاص، ويجعلهم يشهدون تحولات حقيقية، بل حادة في بعض الأحيان في حياتهم، وتلك التركيبات النفسية المعقدة والمتداخلة هي المساحة الدرامية التي لعب عليها بذكاء حفظي وتامر حبيب في صياغة دراما العمل التشويقية. القصة في الأساس ليست فقط حكاية علاقة فتاة برجلين مختلفين. فهذا المنطق قد يصنع فيلماً درامياً رومانسياً. لكن الإثارة تكون من خلال اللعب على تناقضات المشاعر والشخصيات، خصوصاً أنّ الفيلم ينطلق مباشرة من نقطة الصراع. يبدأ بمشهد للبطلة الكفيفة (تجسدها منى زكي) التي تتحسس طريقها باتجاه البحر، حيث استيقظت بعد حالة إغماء شديدة.
أداء مكتمل لآسر ياسين ومنى زكي وعمرو سعد
تجعلنا نشعر أنها فقدت البصر جراء الوقعة، تتحسس طريقها خارج حجرتها، وتأخذنا إلى البحر لنكتشف معها أنّ هناك رجلين يتصارعان إلى حد الموت ويقتتلان لأجلها. يحملها المنتصر في المعركة وهو آسر ياسين الذي يخرج مسرعاً من البحر، ويجذبها من يدها وهي تصرخ «مش شايفة حاجة. بالراحة أنا مش شايفة حاجة» وينطلق بسرعة فائقة بسيارة كانت تقف أمام ذلك المنزل الصيفي. وسرعان ما يلحق به الغريم (يجسد دوره عمرو سعد) فيصدمه آسر بسيارته. إلى هنا والإيقاع لاهث وسريع، والكاميرا كأنها تلاحق الشخصيات. سرعان ما يتصل آسر بطبيب زوجته، ويخبره أنه أحمد زوجها، وأن فقدان الذاكرة قد عاودها من جديد، ثم يصطحبها بالسرعة نفسها إلى يخت بحري كبير يحمل اسم زينة وهو اسم البطلة. ينطلق مسرعاً خوفاً من ملاحقة الغريم الذي يأتي بالفعل في أثرهما رغم انقلاب سيارته.
هذا الإيقاع اللاهث والمتلاحق للأحداث لا يجعلنا نركز على الهاتف المحمول القديم الذي ينتمي إلى بدايات تصوير الفيلم وتعلقه البطلة في رقبتها. من خلال جمل حوارية قليلة بين آسر ومنى، نفهم أنه زوجها وكانت بينهما قصة حب غير تقليدية حافلة بالجنون، وأنها تركته وذهبت مع حبيبها وخطيبها الأول. نفهم ذلك عندما يصرخ في وجهها «انتي تعملي في كدا فعلاً انتي مش فاكرة حاجة.. اسمعي كل حاجة متسجلة بصوتك على موبايلك». يتركها في حجرتها على اليخت مع صوتها لنسمع حكايتها والصراع بينها وبين نفسها، وبينها وبين رشيد، وأحمد ليتفرغ الأخير لمطاردة رشيد.
من خلال صوت زينة أو منى، نتعرف إلى علاقتها بأحمد، ذلك الرجل الناجح في عمله، المهذب الذي يحبها حد العبادة، وينال رضى أمها، ويدفعها دفعاً إلى التطوّر في مجال الكتابة مهنتها. إلا أنه طوال تواجدها معه، تشعر أن هناك شيئاً ناقصاً غير مكتمل. روحها تحتاج إلى التحرر رغم كل محاولات أحمد في التقرب منها ومن أصدقائها. يلحظ أحمد تهربها كلما سألها عن موعد الزواج، ما يجعله ينسحب من حياتها بهدوء، ويعلن على فايسبوك ارتباطه بأخرى. تهرب زينة إلى الغردقة مكانها المفضل على البحر. هناك تصر على التعرف أكثر إلى رشيد، ذلك المتحرر المنطلق الذي تتنافس عليه السيدات. إلى هنا وكان يمكن أن يكون الصراع تقليدياً حيث «الحب والموت والمطاردة والانتقام»، خصوصاً أنّ الفيلم في بعض المناطق يجعلنا نستدعي بعضاً من التركيبة الدرامية لفيلم «النوم مع العدو». لكن حالات العمى وفقدان الذاكرة المتتالية لزينة تجعل السيناريو يتلاعب بالبطلة وبالمتفرج معاً. وهو ما أعطى لسيناريو «أسوار القمر» عناصر تميزه. سرعان ما يحدث التحول لنكتشف أن آسر هو رشيد المتحرر المنطلق ومدمن المخدرات، وأن عمرو سعد هو الزوج المثالي المحب عكس ما اعتقدناه في البدايات ونتيجة تشويش البطلة.
ذلك التحول الذي أتاح لكل شخصية في العمل أن تلعب دورين مختلفين كزينة أو منى التي تقدم واحداً من أفضل أدوارها على الإطلاق. الفتاة المتحررة المنطلقة التي تجرب كل شيء مع رشيد الذي يأخذها إلى عوالم بعيدة ومختلفة، والكفيفة التي تعاني من نوبات فقدان ذاكرة. وبعد صدمتها في رشيد، تعود إلى رشدها، فتصبح أكثر تعقلاً ونضجاً، وتكتشف مساحات جديدة في نفسها وفي أحمد الذي تركته ثم تعود إليه مجدداً بعد طلاقها. نرى أيضاً النجمين عمرو وآسر يتبادلان الأدوار مع التحول الدرامي في الأحداث الذي جعل بعض المشاهدين في الصالة يشهقون مع تصاعد الأحداث.
معظم الأحداث تم تصويرها على شاطئ الغردقة، وفوق أحد المراكب. وإذا كان الحب يمثل قلب الحكاية، فإن الموت حاضر أيضاً بقوة. يقول رشيد المغامر الذي لا يتوقف عن تعاطي المخدرات إن والده حكى له في طفولته قصة أسطورية، إلا أنها باتت تشكل وجدانه ويؤمن بصحتها هي أنّ هناك أسواراً خلف القمر يذهب إليها الموتى. وإذا أراد أحد أن يكلم الموتى، فعليه أن ينتظر اكتمال القمر. لا يكتفي رشيد بذلك، بل يأخذ زينة إلى مكان وسط جزيرة بعيدة انتحر فيه شاب وفتاة مثل روميو وجولييت، وهو المكان الذي يحملها إليه بعد اختطافها من زوجها ليموتا سوياً ويشكل الموت ذروة تصاعد الحدث.
نجح طارق العريان إلى حد كبير في قيادة عناصر العمل فنياً. قدم مع حفظي عملاً تجارياً مصنوعاً بدقة وبروح أميركية، تجذب المشاهد المصري بدءاً من الاختيار الجيد لأبطاله الثلاثة الذين تنافسوا في ما بينهم، خصوصاً مع التحول الدرامي المفاجئ في النصف الثاني من الأحداث. وساعده في ذلك «المونتير» الذكي الذي أدرك قيمة الإيقاع في كل مشهد. الحال نفسها بالنسبة إلى مدير التصوير أحمد المرسي الذي وظف إضاءته درامياً لتعكس الكثير من انفعالات الأبطال وتطور الأحداث، ومهارته في تصوير كل المشاهد الخارجية والمطاردات.