لا يمكن تجنّب تأثير اسم هِلن الخال (1923 – 2009) أثناء مشاهدة معرضها «إغراءات هادئة» الذي اُفتتح أخيراً في غاليري «مارك هاشم» في بيروت. الاسم (التوقيع) أسفل لوحاتها يُنافس اللوحات ذاتها في إعادة المتلقي إلى زمن إنجاز هذه اللوحات، وإلى ثقافة ذلك الزمن وحداثته، وإلى ما يُسمى العصر الذهبي لبيروت حين كانت مختبراً لأسئلة طليعية وطموحات مستقبلية في الرسم كما في الشعر والفن والصحافة.ما نراه أقرب إلى معرض استعادي يضم 70 لوحة تعود إلى مراحل مختلفة من مسيرة الرسامة اللبنانية التي ولدت في أميركا، ودرست الرسم في الأكاديمية اللبنانية (ِALBA)، وفي «آرت ستودنت ليغ» في نيويورك، وتزوجت الشاعر يوسف الخال صاحب مجلة «شعر»، وقدمت معرضها الفردي الأول في بيروت عام 1960، وأسست معه «غاليري وان» عام 1963. محطات وتفاصيل أخرى تحضر إلى جانب اسمها، وتقوّي الاحتياطي التاريخي الذي يحضر مع الانطباعات التي تبثها اللوحات التي ينتمي معظمها إلى فن اللوحة الصغيرة، وبعضها يذهب إلى مينيمالية أصغر في التفاصيل واللون والمساحة.

القياسات الصغيرة تمنح جرعة من الحميمية والذوق الشخصي للمعرض، وهي جرعة مُعدية يمكن أن تنتقل بسهولة إلى بعض هواة النوع الذين يمزجون فكرة اقتناء قطعة أو لوحة مع الحقبة التي تنتمي إليها.
قوة أعمال هلن الخال موجودة في علاقتها باللون أكثر من توصيف اللوحات وتوزعها بين الواقعي والتجريدي. هناك 12 لوحة منفّذة بالرصاص والفحم على ورق تعود إلى زمن دراستها في أربعينيات القرن الماضي. تشخيصات واسكتشات لوضعيات بشرية وبعض التجريد الهندسي البدائي. تلك البدايات التكوينية التي درستها بإشراف قيصر الجميل، إلى جانب أسماء مثل إيفيت أشقر ومنير عيدو وشفيق عبود وميشال بصبوص، ستختلط مع انحيازها إلى تجارب التجريد الأميركية، ومع واقعية ستظل ترافقها في فن البورتريه. اللون كان مفتاحها وشيفرتها داخل هذه الممارسات المتعددة، وهو مفتاح وضعته في متناول المتلقي أيضاً. وحين نرى التجريدات الموجودة في معرضها، تتأكد لنا تلك المغامرة اللونية التي اعتنت فيها هلن الخال بتناغم بسيط للقيم اللونية وتدرجاتها. البساطة موجودة أيضاً في واحدية مزاج اللوحة وفي تأليفها الذي يكاد يكون عبارة عن مشحات أولية فقط، وخصوصاً في لوحات تترجم فيها منظراً طبيعياً أو لنقل تختزل واقعية هذا المنظر في تجاورات محدودة للونين أو ثلاثة، أو في سلسلة لوحات استثمرت فيها المربع الهندسي والدائرة والشكل البيضوي، مستدعيةً بعضاً من مناخات جوزيف ألبرز وكازيمير ماليفيتش التجريدية والخالية كلياً من أي موضوع ملموس أو مادة واقعية. لم تنسخ الفنانة تلك التأثيرات طبعاً، بل تصرفت بخلاء تلك المربعات والخطوط والأشكال الهندسية وشواغرها، واحتفظت بشيء من الحميمية والمودة التي لا تجعل الشكل الهندسي بارداً أو مجرد تكرار تجريدي بلا نهاية.
يضم المعرض 70 لوحة تعود إلى مراحل مختلفة من مسيرتها


ولذلك، وضعت مربعاً داخل مربع أكبر، ووضعت شكلاً بيضوياً في تناظر وحوار مع شكل بيضوي أصغر، واهتمت كثيراً بتبْهيت خطوط المربعات والدوائر من خلال استخدام ألوان مواربة ومخففة يمكنها أن تزيح المعنى التجريدي الصافي لصالح نوع من الروحانية والحميمية. هناك طبعاً محاكاة بعيدة لعناصر الطبيعة والكون والمشهديات اليومية، ولكن هلن الخال كانت تكتفي بخلق بؤر لونية وشكلانية تذكّر بالطبيعة وتختصرها في الوقت نفسه. ولعل ذلك يفسّر علاقتها المستمرة بالتشخيص والبورتريه والطبيعة الصامتة، وهو ما جعل تجريداتها تنجو من الفراغ الشكلاني والبرودة الهندسية. في المقابل، روّضت هلن الخال محاكاتها للطبيعة والتشخيص في ممارسات مينيمالية محدودة، فالرحابة المتوفرة في الطبيعة الفسيحة تمّ تأويلها بضربات لونية قصيرة يمكنها أن تؤدي الدور المجازي لعناصر الطبيعة، بينما في أعمال البورتريه (وبينها بورتريه لها ولزوجها وطليقها يوسف الخال وولديها طارق وجواد) تصبح تلك الضربات سائلة وذائبة ولا تترك بقعاً لونية سميكة. هكذا، أصبحت اللوحات صغيرة، ومكتفية بعناصر ومكونات قليلة أيضاً، وصار ذلك جزءاً من هوية الفنانة التي كتبت عن الفن كما مارسته، وهو ما منحها نوعاً من العلاقة المباشرة والمتواصلة بالمرجعيات والتغيرات التي حدثت في المحترف اللبناني وفي الخارج.

* «هلن الخال: إغراءات هادئة»: حتى 18 شباط (فبراير) ـــ «غاليري مارك هاشم»، مينا الحصن (وسط بيروت). للاستعلام: 01999313