كم هو جميل هذا الـ«بيردمان» (2014 ـ 119 د). كم هو مختلف أليخاندرو غونزاليس إيناريتو عن السابق! السينمائي المكسيكي (1963) يستبدل جلده بآخر أكثر نضجاً وجرأةً. يحقق انعطافةً أسلوبية ودرامية في الوقت المناسب. في جديده، يقترح شريطاً مدهشاً، أخّاذاً، بليغاً، شجاعاً، لا يخشى مدّ لسانه في وجه الجميع. يتحرّش بهوليوود من صلبها، مستعيناً بالكاست الملائم فنياً وشخصياً. ينافس على 9 جوائز في الأوسكار المقبل.
منذ باكورته «أموريس بيروس» (2000)، نجح في إثارة اهتمام الكوكب. جاء من مكسيكو سيتي لينضمّ إلى لامعين من أبناء جلدته مثل ألفونسو كواران، وغيليرمو ديل تورو. الخلفية مزيج من هندسة اتصالات وأسفار بحرية وتأليف موسيقي وإدارة راديو، وصولاً إلى الدراسة على يد المسرحي البولندي لودفيغ مارغلس والأميركية جوديث ويستون. اعتماده على غيليرمو أرياغا في الكتابة أثمر تحفاً من عيار «أموريس بيروس» و«21 غراماً» (2003) «بابل» (2006).
هذه باروديا كبيرة عن الالتماع الهوليودي الذي يخفي أطناناً من الكوارث والعقد النفسية
هذه «ثلاثية الموت» حسب قاموس بعض النقاد. أزمات متوازية يفجّرها حادث مروري أو رصاصة بندقية، لتتمدد على جغرافيا عاصمة مثل مكسيكو سيتي أو ثلاث قارات حول العالم. سريعاً، صار إيناريتو من توابل بلاده الأسطورية، عابراً بسينماها إلى اليابسة الحلم: أول مكسيكي ينال ترشيحاً لأوسكار أفضل مخرج، وأول مكسيكي المولد يفوز بجائزة أفضل مخرج في «كان» عن «بابل». في الأفلمة، يلقي أمامنا كاميرا متوترة، وإيقاعاً لاهثاً لمطاردة حبكات مختلفة. التوليف النهائي يضمن بنية سرد غير تقليدية. شخصيات مسحوقة (سينما القاع) لا تمانع إظهار وسخها وطيبتها وتناقضاتها الآتية من لحم ودم وعظام. السعي إلى الخلاص من حماقات قديمة أو ورطات آنية ينصب فخاخاً أخرى، ويولّد مزيداً من الأزمات. أماكن وشوارع شديدة الحياة. هذا الأسلوب الواقعي المتشظّي ألهم كثيراً من المخرجين الجدد حول العالم، خصوصاً في مناطق فقيرة ومتخلفة سينمائياً كالتي نعيش فيها. هنا، أدرك إيناريتو بذكاء فني أنّ الستاتيكو مقتل للمخرج. ابتعد عن أرياغا، وراح يبحث عن دماء جديدة. في تحفته «بيوتفل» (2010) عن سيناريو كتبه مع نيكولاس جياكوبون وأرماندو بو، ركّز على بطل مضاد واحد هو أوكسبال (خافيير بارديم). رحلة جحيمية في برشلونة العالم السفلي، تعرّي الفرد في مواجهة التوحش الرأسمالي والأزمة الأوروبية. تنتصر لقلبه رغم كل شيء. بعد أربع سنوات، طار أليخاندرو من الأزقة الضيقة وأقبية الاختناق الجماعي إلى كواليس برودواي في «بيردمان». أضاف ألكساندر دينلاريس إلى فريق كتابة «بيوتفل»، لتحلّق الكاميرا في فضاء مسرح سانت جايمس. جلب مكسيكياً آخر يعدّ فلتةً في السينماتوغرافيا هو إيمانويل لوبيزكي. الرجل الذي كان عين تيرانس ماليك وألفونسو كواران والأخوين كوين وتيم بورتون ومايكل مان... وظّف كاستاً من العيار الثقيل بعد أبحاث في التاريخ الشخصي والقدرات الفنية.
في المضمون، نحن بصدد ممثل خفت بريقه بعد نجومية في أفلام «السوبر هيرو». إنّه ريغان (مايكل كيتون) الذي يعمل على اقتباس مسرحي عن قصة للأميركي رايموند كارفر (1938 – 1988) في محاولة أخيرة لمنع نفسه من الانهيار. أرقام شباك التذاكر في التسعينيات لا تعني أنّه موهوب حقاً. معظم المشاهدين يعرفون «بيردمان» فقط ويفضّلون البطل الخارق على الكينونة الحقيقية. لذا، أراد الاستعانة بنجم جاذب في القرن الحادي والعشرين. لكن مخالب «البلوك باسترز» لم تترك موهوباً وشأنه. وودي هارلسون مشغول بـ«ألعاب الجوع»، ومايكل فاسبندر منهمك في «إكس مين»، فيما تتغنّى الميديا بروبرت داوني جونيور في «الرجل الحديدي». لكن ها هو المنقذ يطرق الباب. مايك شاينور (إدوارد نورتون) موهوب حقيقي وساحر قلوب. حضوره يقلب الطاولة في وجه ريغان ويصعّد صراعاته. هو نزق، متعب في العمل، ولا يأبه لرأي أحد سوى الناقدة (ليندسي دنكان) القادرة على تدميره بمراجعاتها. في الجوار، نرى منتجاً مترقباً (زاك غالفياناكس)، وزوجة سابقة (إيمي ريان)، وابنةً خارجةً للتوّ من مصح الإدمان (إيما ستون)، وممثلة مستهلَكة فنياً وعاطفياً (أندريا ريسبورو)، وأخرى على وشك تحقيق حلم برودواي (ناعومي واتس). هناك ريغان الآخر أيضاً. كاراكتير «بيردمان» الذي يقف ضدّ هذا «الهراء» المسرحي. الصوت الذي يصفعه بالحقيقة ويغرقه بالأوهام. يعرّيه من دون تحفظ، ليزيده اغتراباً. هذه باروديا كبيرة عن الالتماع الهوليودي الذي يخفي أطناناً من الكوارث والعقد النفسية. «الشيء هو شيء، وليس ما يُقال عنه». إذاً، الرجل مريض حقاً. لديه مشاكل كبيرة في التواصل مع محيطه: مع الجيل الجديد الذي يعتبر تويتر والفايسبوك من البديهيات، مع فشله العاطفي والفني، بل مع العالم بأسره. هكذا، يمكننا تقدير كاستينغ إيناريتو. مَن أفضل من مايكل كيتون الذي كان «باتمان» تيم بورتون قبل 20 عاماً ليلعب شيئاً من واقعه اليوم؟ من أنسب من إدوارد نورتون المعروف بصعوبته في العمل؟ ناعومي واتس قادمة من «طريق مولهولاند» لديفيد لينش برفقة نزعتها السحاقية في التقبيل. في التنفيذ الفني، يلجأ إيناريتو إلى مغامرة مجنونة في إظهار الشريط كلقطة مستمرة. ترافلينغ يحيل الكواليس إلى متاهة نفسية، ويورّط المشاهد في كوريغراف مدروس بعناية. لا مجال للخطأ في المشاهد المسرحية الطويلة التي يتلوها الممثلون ككتاب مقدّس. توليف دوغلاس كرايس وستيفن ميريون يبني على إرث هيتشكوك في «الحبل» و«النافذة الخلفية». في وصفة إيناريتو، الكثير من أسماء ورموز ثقافته، إضافةً إلى تحية إلى أساتذة وزملاء. ثمّة موقف حاد من النقد وسينما «السوبر هيرو» التي يصفها بالـ«فاشية». يفتتح بعبارة ويقفل بفعل يحيلان على «نادي القتال» (1999) لديفيد فينشر. رائحة غودار واضحة كذلك. ها هو يمزج «الواقعية الهوليودية» مع «الواقعية السحرية» ليستبدل «القدرات الخارقة» بـ «الواقعية الخارقة». هذا جنر سينمائي ما بعد حداثوي. كذلك، يخلط شكسبير بماركيز لإنتاج نجم مضاد من نوع خاص. يحمّل مايك مفهوماً مثيراً للاهتمام حول التمثيل. إنّه عبارة عن كسب الرزق، ووضع الروح على المحك، والمصارعة مع مزيج من المشاعر. المرء يصبح ناقداً عندما يعجز عن الفن، تماماً كمن يعمل مخبراً لأنّه لم يستطع أن يكون جندياً! لكن الناقد لا يخاطر إلا ببضع كلمات، على عكس الممثل الذي قد يخسر كل شيء. من الطبيعي أن تكون صحافية «التابلويدز» على جهل برولان بارت. نعم، كم هو جميل هذا الـ«إيناريتو» الجديد. واحدة من الهدايا الأبهى التي حملتها الألفية الجديدة إلى العالم. من سوء الحظ، لن نكون هنا مطلع الألفية التالية.

* «بيردمان»: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)