«وحشة» هي مانيفستو رفيق علي أحمد الحزين، الغاضب من تأزمات الأوضاع تحت سماء اللبنانيين المقصوصة من الترقب والاستماع والفعل. عند أحد أبرز مسرحيي جيله، يتعلّق الأمر بتبني الوضعية المناسبة. استغرقت عملية الكتابة طويلاً، واحتوى النص على مقاطع مختارة من بعض المسرحيات وأعمال المونودراما. هذا ليس نص رفيق علي أحمد، بل رسمه المشبع بحاضر الأشياء الصامت على كثرة ضجيج اللبنانيين. ثمة طريقة واحدة لقراءة النص هي قراءته كمؤلف من مقطوعات الجاز الخاضعة للتأليف قدر خضوعها للحرية والارتجال. الكتابة موسيقية هنا، لا أدبية لأنها كتابة بالروح لا بالقلم.لا ينتقل المسرحي في «وحشة» من حيز إلى حيز، لأن اللعب لعب بالنفس، أكثر مما هو لعب أمام الآخرين. رحلة رفيق علي أحمد عبر الخوف والموت والحياة والضحك.
لا وسيلة إلا بالابتعاد من ترجمة الأشياء عنده، لأنه ابن ثقافة ومساهم في صناعة ثقافة، تعكس الفكر السياسي والاجتماعي، المستقطب الناس على الأمور الثانوية والجوهرية، ولو بدت تجربته بروحها، تجربة ذاكرة معتصرة الرؤى في «وحشة». إننا أمام آخر الحكواتية في لبنان والعالم العربي، مرهف الإحساس أمام التطورات والمواقف والتغيرات والتحولات في عصره.
المفاجأة أنّ المسرحي غير المشغول بقضايا التأصيل والتحديث، ميال في مونودراماه، إلى أسلوب أرسطوفانيس الدراماتيكي. مزيج من الموسيقى والرقص والهجاء الساخر والصور والمشاهد الكاشفة والمضيئة على أحداث البيت الداخلي. هجاء سياسي وشعر غنائي وهذيان سوريالي. جدالات ومناقشات حول المرأة والتربية والمناهج وبين السفسطة السياسية والقيم التقليدية والحياة الراهنة والشباب ووسائل التواصل الاجتماعي، بوسيلة واحدة هي جسد متوتر بالإبداع على خيط روائي يقوده الجسد حيثما يشاء ويرغب. ما عاد أحد يردد أن رفيق علي أحمد يمتلك طريقته الفريدة على الخشبة، لأن لا أحد ينافسه على ذلك. قدرته على السيطرة على عرضه مدهشة، بحيث يستولي لا على المنصة وحدها، بل أيضاً على الفضاء العام للمسرح والصالة بحيث يصحّح الأخطاء التقنية ويحولّها إلى جزء من العرض. هذه رباعيته كما أن للخيام رباعيته. كل رباعية، أرملة لا تستقيم أحوالها إلا مع رجلها. لا مع سيد ولا عبد ولا أسير حرب. فضاء مركز على رفيق علي أحمد، لأنه الوحيد القادر على السباحة في جوهره الخاص. الحال أن العين ترى غير ما تراه عين المبدع. لن تعتصر الرؤى الممثل، لأنها محشودة في سحنته، وصوته، وحضوره، وفرط معرفته بما يفعله بحيث أدرك أنه لا بد من كتابة الحضور المتوازن بين الإحساس العالي بالضغط والهدوء المطلوب لبناء عرض قائم على التعبير الصحيح عن الأحاسيس.
يميل في مونودراماه إلى أسلوب أرسطوفانيس الدراماتيكي
يلعب جسده بعناد شبح ظريف يسعى لفك أسر الناس برواية الحكايات وإسداء النصائح، على ندرتها، وهو عالق بين حياتين: الحياة الدنيا والحياة الآخرة. لن يلتحق الرجل بالواقعي. هنا، لا يصر على الحضور فيه، إلا كي يدفع إلى مجاوزة واقع القبح. كل ما على الخشبة، فوق لحظات الإيحاء، خصوصاً الجسد لأنه بلبل العرض الدائر بين الرؤية والتفكير. جسد يغير العلاقة بالواقع والواقعية، بعيداً من نسخات طبق الأصل عنها. لا يساوم المسرح هنا. لا يبلف ولا يقدم الرشاوى، حيث تحولت الحكاية إلى وجه الممثل، وتحول الوجه إلى معيار فضاء النظرة إلى الحكاية.
الوجه لا يمثل الوجه، حين يضحي الجسد مصنع المعارف والصور بالحركات الحية والطواعيات البعيدة من اجترار الكلام واللغة. رأسمال مسرح رفيق علي أحمد هويته. هويته الشخصية وهوية مسرحيته، وهما يتداخلان على هذا الصعيد كالمصل باليد. مسرحه عناق، بلا غموض، بلا توهان فوق رؤوس الغيم. أشلاء اللبنانيين، يجمعها المسرحي، ويوقظها، حتى تقل القبور في بلد الموت السادر. لا حاجة، إلى لوحات النساء، الجامحات في التاريخ، لأنّ الرواية تمنح حضورهن بعده التخيلي الضروري. ذلك أن الغابة في الجسد. جسد رفيق علي أحمد، غابة من المرافئ المنذورة للشكوى. الراوي، آخر الحكواتية، تروبادور بيروت وسائر المشرق، في مونودراما جديدة قائمة على أشياء الحياة بكتابة الشواهد عليها.
تقرأ «وحشة» من عنوانها وهي تروي وحشة البشر. ينشد رفيق علي أحمد الوجع بصوت الفرد الذي يكثِّف صوت الجماعة. لا يصنع في «وحشة» أبياتاً تناسب صوته، لأنه حين يروي حكاية الكلوشار البيروتي، لا يروي حكاية نفسه، يروي حكايات الناس المخبوءة في الخوف والترقب والقهر، في البيت والمؤسسة والدولة والنظام. صاحب «الزبال» و»الجرس» يدرك تماماً الهوة بين المكتوب والمنطوق والممسرح. لذا يتصدى للكتابة والتمثيل والإخراج في مونودراما أشبه بسفر جارح لا يسعه الورق وحده. لقاء بالنفس والعالم على تشظيات العالم، من دون خداع أو ترميزات كلام، تظهر الرمز خارقاً أكثر من الواقع.