أغصان الشجرة المرسومة على الغلاف (تصميم باولا بولينغ)، تتسلل إلى صفحات الكتاب الأولى. علّقت عليها، في الداخل، وجوه فناني العدد الجديد من «السمندل ــ قصص مصوّرة من هنا وهناك»، في تجسيد لشجرة العائلة. ثماني سنوات تفصلنا عن إطلاق العدد الأول من مجلة الكوميكس اللبنانية. وبعد غيابها لعام تقريباً، صدرت نسختها الجديدة في كانون الأول (ديسمبر) 2014، لتبدد كل توقعات اختفائها. كثيرون من قراء «السمندل»، لن يتمكّنوا، ربّما، من التعرف إليها فوراً.
كبر حجمها، وتكاثرت صفحاتها، وقد أصبح توقيت صدورها سنوياً. لم يعد بإمكاننا الحديث الآن عن مجلة كما في السابق، أو عن مغامرة تشقّ طريقها نحو جمهور مجهول. في أعدادها الـ 15 التي أطلقتها خلال السنوات الفائتة، وشارك فيها ما يقارب الـ 180 فناناً، اكتسبت التجربة جمهوراً واسعاً في لبنان والعالم العربي. وحين نلتفت إلى الوراء، إلى بداية المشروع الذي أطلقه عمر الخوري وحاتم الإمام ولينا مرهج و«الفدز» وطارق نبعة، ستظهر «السمندل» لاعباً طليعياً في حركة الشرائط المصورة العربية التي كانت تبحث عن شق فقط كي تنفلت عبره التجارب الجديدة. هذه الحركة الحديثة للشرائط المصورة للبالغين، اشتملت على تجارب مصرية مثل الـ «توك توك»، و«الدشمة»، ومهرجانات هذا الفن في المغرب والجزائر وفلسطين ومصر وبيروت.
في العاصمة اللبنانية، حملت «السمندل» أسئلة الشارع وهواجس الفنانين، وتجسدت مناخات المدينة العبثية في الرسومات والقصص على صفحاتها. كذلك انفتحت على التجارب العالمية وفنانيها، فتحوّلت إلى منصة للاختبار والبحث عن اللغات والقوالب وطرق التعبير في السرد البصري.
عناصر لا تزال تطبع، مجتمعة، خصوصية «السمندل» في مجلدها الجديد الذي اختار عنوانه/ ثيمته «سلالة»، وتولى تحريره الفنان اللبناني براق ريما (راجع الكادر). جمعت «سلالة» ريما 22 فناناً من أجيال وجنسيات ومدارس ولغات مختلفة، أنجزوا 20 عملاً تعكس التجريب الذي حرصت «السمندل» على تكريسه منذ البداية.
بين العائلة، والطفولة والذاكرة والتاريخ والسياسة والرغبة، والكوابيس والمدينة، والأساطير تنوعت الإشكاليات والأسئلة. ذهب الفنانون بخياراتهم إلى أقصاها على الورق، تحت عيون آباء هذا الفن كالشاعر والسينمائي المغربي أحمد البوعناني (1938 ــ2011)، الذي تضمن العدد عملاً له. استلهموا شرائطهم من الفنون المحيطة، خصوصاً أن بعضهم آت من خلفيات فنية أخرى. لم تترجم فكرة السلاسة في ثيمة بعض الأعمال فحسب، بل هي سلالة بين الفنانين المشاركين في هذا العدد، الذين اختارهم براق ريما ودعاهم من المغرب، ولبنان، والأرجنتين، والجزائر، وبلجيكا، وألمانيا وفرنسا، ومصر.
أعمال تقارب العائلة والذاكرة والتاريخ والسياسة والرغبة


هكذا أضيفت إلى المجلّد اللغتان الألمانية والإسبانية إلى العربية والفرنسية والإنكليزية التي كانت تصدر بها المجلة، وأرفق بكتيب ترجمة للشرائط الأجنبية.
تتداخل الأحداث السياسية مع الحياة العائلية، وسيرة الأم مع سيرة الابنة في «أن تأخذ ألبوم العائلة (كلما غادرت المنزل)» لجنى طرابلسي ووالدتها نوال عبود. من خلال الرسومات والكولاج والطوابع التي تخرج العمل عن سياق الشرائط المصورة التقليدي، نقرأ قصة حزينة، مثقلة بالخيبات السياسية والمدينية، ورثتها الابنة عن جيل أمها. نرى هذا تحديداً في شق الطوابع التي أنجزتها نوال في فورة المقاومة، ورسمتها جنى بعد سنوات، كذكرى لذلك النضال. هي سلسلة من الحروب والهجرات المتتالية بدءاً بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وسفر العائلة، ووفاة عبد الناصر، والهزائم الفلسطينية والتمدد العمراني في العاصمة اللبنانية وصولاً إلى الثورة السورية. في «غداً لن يأتي»، نقرأ القصة العائلية لمازن كرباج ووالدته لور غريب عائلية. يجري الثنائي حواراً بصرياً من خلال الشرائط المصورة. يرمي مازن إلى أمه تساؤلات ولدت بعد بلوغه سن الأربعين، فيتمنى إعادة كل شيء من البداية. تخلق هذه النقطة حواراً حميماً بين جيلين متباعدين، يطغى عليها أقران لور وعائلتها الشعرية والفنية في بيروت الستينيات. أما تساؤلات مازن العفوية والبسيطة فستجرنا إلى هاوية الذاكرة، وآلية عملها، قبل أن يطلقا العنان لرسوماتهما العبثية المتداخلة التي تملأ الصفحات الأخيرة. المناخات الكافكاوية تخيم على «قيلولة قبل الظهر» لبراق. في أجواء كابوسية، وأماكن مجهولة، نرى تحوّل علاقته بوالديه. أبوه الذي لا يراه بينما يقف إلى جانبه في المصعد، أمه التي كأنها تعرفت إليه وهو متنكر، حين رقصت معه. يبدو عمل «سلالة في 10 حركات» لحاتم الإمام، مستغنياً عن ملامح الشرائط المصورة المتوقعة. يقدّم الفنان اللبناني رؤاه للمفهوم التقليدي للعائلة؛ التزاوج والتكاثر، امتصاص المعرفة، الاصطفاف، التكرار، التناغم والتناقض، بينما يحاول بتلقائية تجسيدها بصرياً عبر بعض الخطوط والخربشات المجردّة.
وبعيداً من ثيمة السلالة، تلتقط لينا مرهج تلك المسافة المتقلّصة، والفاصل الهشّ بين النشوة والألم في «ألعاب آلام»، عبر لغة بصرية شاعرية. في لعبة بين الزمن وعناصر الكوميكس، يعثر المعلم الفرنسي بودوان على الجدوى من رسم الشرائط المصورة في «وهن». يريد تجميد اللحظة، ووجوه آلاف الناس الذين يمر بهم يومياً، يسعى إلى القبض على معلّميه؛ غويا وجياكومتي وشيتاو، وعلى الرقص والمعاصر والنساء. وفي محاكاة لمفهوم النوم لدى المصريين القدماء، الذي يفضي إلى أنه تسلسل لما هو أبعد من النوم، يرسم الفرنسي جولو في «غرق»، النبض اليومي للشارع المصري، وصولاً إلى الثورة المصرية. يختلط الواقع بأحلام النوم العميق نفسه!
هناك خط طويل، مغلّف بالذكريات يسحبنا إلى أعماق الذات في قصة «حلمت دائماً...» للراحل المغربي أحمد البوعناني التي كانت قد نشرت في صحيفة «المغرب» خلال الثمانينات. «ماما، بابا، وطني، علمي.. حرية، قومية، سلام...» هي أغنية الأبجدية التي كانت تبثها القنوات المصرية بعد حرب 6 أكتوبر. في «أغنية الأبجدية: أربعة تمارين على إنشاد الواجب ونسيانه» يحاكي الفنان اللبناني أكرم الزعتري، الأغنية التي طبعت ذاكرة ملايين الأطفال العرب. وكانت تصل عبر القنوات المصرية التي كانت تلتقطها الشاشات في الجنوب اللبناني في فصلي الربيع والصيف خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. يرسم الزعتري مشاهد من أنيمايشن الأغنية، التي أنجزتها سوسن العبدالله عام 1973، ويرفقها بلمحة عنها كأنها تعويذة للتخلص من الأغنية ومبادئها التي لم يعد يؤيد أياً منها، باستثناء السلام.
هناك «فضاء» نوال الورد، و«قصة» لويس جوس، وباريس الجزيرة اللامهجورة التي حطّت فيها زينة أبي راشد، والمناخات الغرائبية للأرجنتيني فرانك فيغا قي «إليكتروميوغرام مع الشيطان»، وقصة «زبالة» للمصري شناوي، و«دار» زينب بن جلون... تكاد قصص المجلّد لا تنتهي، إذ قد تكون كافية لتبديد الوقت الفاصل للقائنا في العدد المقبل.

برّاق ريما حامي «السلالة»



فرضت السنوات الثماني الأولى على «السمندل»، تحوّلات في طموحاتها وأهدافها، ظهرت أخيراً في عددها الجديد. إنه التحوّل الحتمي لمشروع شبابي، ساهم طوال تلك الفترة، في تكريس القصص المصورة كفن مستقل للبالغين في لبنان والعالم العربي. انشغل في إرساء منصة ثابتة للسرد البصري، داعياً الفنانين من مختلف المدارس إلى منبره، بينما كان مشغولاً بخلق الجمهور وتوسيع رقعته. بعيداً من التجربة الشخصية للمجلة، هناك من بات يحمل هذا الهم مع «السمندل». فورة مهرجانات ومجلات هذا الفن في العالم العربي، خلال السنوات العشر الأخيرة، شكلت فسحة راحة أمام «السمندل»، للتوسّع في طموحاتها والتورط أكثر في السياسة التحريرية وضبط توجهها، من دون أن يمنعها هذا من الحفاظ على مساحة التجريب. أبرز التغييرات الجديدة التي شهدتها المجلة، صدور عدد سنوي واحد، وانتقاء فنان من هيئة تحرير «السمندل» للإشراف على كل عدد. المحرر الحالي هو برّاق ريما (1972)، الذي استدعى الفنانين انطلاقاً من فكرة «السلالة». حاول ريما خلق سلالة من الفنانين العالميين، والعرب والمحليين. احتضن تجارب وتقنيات مختلفة، فيما أضاف اللغتين الألمانية والإسبانية إلى الفرنسية والعربية والإنكليزية التي كانت تصدر بها المجلة. برّاق الذي يقيم في بروكسيل ويعمل في الشرائط المصوّرة والإخراج السينمائي، أنجز كتباً مثل «بيروت»، و«حكواتي القاهرة»، و«قيلولة قبل الظهر» التي لا تزال قيد الإنجاز، وشاهدنا مقتطفاً منها في العدد الجديد. كذلك، ينجز شريط «دو بروسلمنسن» الأسبوعي في جريدة «بروسل ديزه ويك»، و«سوسيولوجيا» في «جريدة الأخبار».
مقدّمة العدد، بلغتيها العربية والفرنسية، حملت توقيع براق ريما. وفيها، لخّص رحلته التحريرية. بعدما كانت المجلة تفتح أبوابها أمام الفنانين ثم تختار الأفضل، دعا ريما 30 فناناً، ليصلوا إلى 22 في النهاية. خضع ذلك الاختيار لأولويات اكتشاف فنانين جدد من العالم العربي، تعرّف إلى بعضهم في مهرجانات كوميكس عربية وعالمية، وآخرين ممن يهتم بطريقة عملهم، بعضهم من أسرة «السمندل».
لم تخضع فكرة «السلالة» إلى مسارات علمية أو نظرية، بل حافظت على الجانب الحدثي، أكان لناحية السياسة التحريرية «التجريبية» التي لم تلزم الفنانين بهذه الثيمة، أو لناحية تنفيذ أعمال العدد، والتحضير لها. هكذا، حاول ريما الغوص مع الفنانين في رحلات عملهم، ومراحل إنجازه. طرح عليهم أسئلة وإشكاليات القصص المصوّرة الأساسية التي تصيب كل فنان وتحديداً التي تشغله، مثل تلك المتعلّقة بثلاثية العقل واليد والعين التي تنفذ الكوميكس. أَولى لهذه الورشة المفتوحة والتشاركية أهمية كبيرة. هي أولاً جزء أساسي من السياسة التحريرية الجديدة المتبعة. وكي تكتمل السلالة تماماً، عمد الفنان اللبناني المتخرّج من «أكاديمية الفنون الجميلة في بروكسيل»، و«معهد فنون البث في لوفان لا نوف» (بلجيكا) إلى مد جسور مع الأجيال القديمة العربية والغربية. هكذا شاهدنا عملاً للسينمائي والشاعر المغربي الراحل أحمد البوعناني، فيما لم يستطع الحصول على حق نشر عمل لفنان الكوميكس الأرجنتيني الراحل ألبرتو بريتشيا. كذلك تجاورت الأعمال الشابة، مع تلك المكرسة لفنانين مثل جولو، ولويس جويس وبودوان وغيرهم.
روان...

لينا مرهج

عرفنا لينا مرهج كإحدى مؤسسات «السمندل». عرفناها أيضاً، في «مربّى ولبن، أو كيف أصبحت أمي لبنانية» الذي نالت عنه جائزة أفضل كتاب شرائط مصوّرة في «مهرجان فيبدا» الجزائري. تنظر الفنانة اللبنانية إلى «السمندل» اليوم كتجربة ناضجة، ألقت بتأثيرها على لبنان والعالم العربي. «كبرت المجلة، وتطورت مهاراتنا وأبحاثنا في فن الكوميكس» تقول. نقرأ لها في العدد «ألعاب آلام» عبر شريط بصري شاعري.





حاتم إمام

«ليس طبيباً أو مهندساً أو رجل أعمال». بهذه الجملة التهكمية، لخّص حاتم إمام سيرته الذاتية. أحد مؤسسي «السمندل» رافق التجربة منذ بدايتها، وشارك في عمله «سلالة في 10 حركات» الخالي من الوجوه والأمكنة والتسلسل البصري المتوقّع. تشكّل فسحة التجريب في المجلة دافعه الأكبر لإنجاز شرائطه المصورة. تروقه هذه الورشة؛ فنانون يبحثون عن لغاتهم الخاصة من دون أن يرتبطوا بالضرورة بالمدارس الكبيرة لفن الكوميكس.





جنى طرابلسي

تثمّن جنى طرابلسي عودة «السمندل» بعد انقطاعها سنة كاملة، عازية هذه العودة إلى إحساس فريقها بالمسؤولية تجاه جمهوره. شاركت الرسامة والمصممة الغرافيكية اللبنانية، بقصصها مراراً في المجلة. وفي شريطها المصوّر «أن تأخذ ألبوم العائلة (كلما غادرت المنزل)» الذي أنجزته مع والدتها نوال عبود، اكتشفت طرابلسي صلات بين جيليهما. روابط خرجت على شكل قصص شخصية متداخلة مع الواقع السياسي المخيّب، معظم الأحيان، في هذه الرقعة من العالم.