غزة | منذ أن هزّت حادثة «شارلي إيبدو» العالم، اتجهت وسائل الإعلام إلى مقاربة الحدث وتفكيك خلفياته بناءً على منطق اختزالي. هكذا، انحصرت المقاربة الإعلامية في أنّ الفرنسيين يدفعون فاتورة دفاعهم عن حرية الرأي والتعبير من دون وضع الحادثة في سياق أكثر شمولاً كالتوغل في انعكاسات السياسة الفرنسية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
غير أن كثيراً من وسائل الإعلام التي تمترست خلف شعارات الحريّة في معالجتها للحادثة وتداعياتها، باتت الازدواجية الصارخة تحكم عملها. كما شكّلت منبراً قوياً لتمرير بعض الجماعات اليهودية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي «مظلوميتها» وسط غابة من «المتوحشين» المسلمين.
أخيراً، حاول المذيع البريطاني الشهير تيم ويلكوكس الخروج من هذه المقاربة، فسرعان ما قوبل بهجوم عنيف شنّه مثقفون وصحافيون وحملة «ضد معاداة السامية» الصهيونية.
الغضب على ويلكوكس يعود إلى لقاء أجراه مع امرأة يهودية تُدعى «تشافا» خلال تظاهرة باريس التاريخية. المذيع المخضرم الذي يعمل لمصلحة BBC، كان يستطلع آراء المشاركين حول الحادثة، حين اقترب من «تشافا» ورصد تخوّفاتها المستقبلية.
تشافا استغلت المقابلة التلفزيونية لاستعطاف المشاهدين مع اليهود عبر استعادة ذكريات نجاة والديها من المحرقة النازية في ثلاثينيات القرن الماضي.
نجحت تشافا في إسقاط واقعة «الهولوكوست» على تبعات مذبحة «شارلي إيبدو»، خصوصاً أنّ أربعة يهود قتلوا في متجر تابع لهم في باريس.
برعت في التقاط الوقت المناسب المشحون دينياً وعاطفياً لإبراز المغالاة حيال فكرة «الاستهداف المنظّم لليهود»، فقالت: «علينا ألا نخشى أن نقول إن اليهود هم الهدف الآن.
اضطر المقدّم للاعتذار
على حسابه على تويتر
إنني لا أشعر بالأمان في فرنسا». وفي معرض استحضارها للمحرقة، رأت تشافا أنّه «ما زال بالإمكان إصلاح الوضع الحالي قبل فوات الأوان، على عكس الفترة التي سبقت المحرقة». غير أن ويلكوكس أثار زاوية مختلفة في الردّ على كلام تشافا، وخرج عن السياسة التحريرية العامة التي تضبط BBC، فقال بطريقة ملتوية: «منتقدون كثر لسياسة إسرائيل يرون أن الفلسطينيين عانوا كثيراً على أيدي اليهود كذلك». هذه العبارة كانت كفيلة بإثارة سخط تشافا التي طلبت من ويلكوكس «عدم الخلط بين القضيتين»، قبل أن يردّ الأخير عليها بالقول: «لكن أنت تعرفين أنّ كل شيء يجب أن يُنظر إليه من زوايا مختلفة».
سرعان ما أشعلت هذه المقابلة التلفزيونية النيران عبر مواقع التواصل الاجتماعي. صبّ اللوبي الصهيوني في بريطانيا جام غضبه على ويلكوكس الذي اتهمه بـ»معاداة السامية»، داعياً BBC إلى إقالته فوراً.
حاول ويلكوكس التخفيف من وطأة الغضب ضده بتقديمه اعتذاراً على تويتر، قائلاً «أعتذر عن الإهانة غير المقصودة التي حملها تعليقي، فقلد خانني التعبير».
لكنّ ذلك لم يشفع له عند حملة «ضد معاداة السامية» التي أعادت نشر تلك اللقطات، ودعت «من شعر بالإساءة إلى تقديم شكوى رسمية ضد ويلكوكس». وطالبه آخرون بتقديم اعتذار علني على الشاشة بينما سعت إدارة المحطة إلى احتواء الموقف، إذ أصدرت بياناً جاء فيه: «ويلكوكس اعتذر عن تعبيره غير المقصود خلال مقابلة حية في برنامج In-Depth مع اثنين من الأصدقاء، أحدهما جزائري مسلم، وأخرى يهودية ولدت لمستوطنين في فلسطين». ورغم السلوك الاعتذاري الذي سلكه المذيع ومحطته، إلا أنّ أصواتاً استفزازية ظلّت توجّه سهامها نحو ويلكوكس، متسائلةً: «لماذا ما زال يعمل في BBC حتى الآن؟».
هكذا، تبرز هذه الحادثة حجم الضغط الواقع على أي صحافي غربي يشذّ عن السائد في مقاربته لقضايا الشرق الأوسط، ويبتعد قليلاً من دائرة الاسلاموفبيا في الطرح. كما تقرع جرس الإنذار للإعلام العربي الذي ما زال عاجزاً عن اختراق الجمهور الغربي وإذابة الجليد بينه وبين العرب.