الاستقطاب الحاد لم يغادر السينما السورية للعام الرابع على التوالي. صراع المواقف ما زال محتدماً بين كثير من السينمائيين السوريين، وبالتالي بين نتاجاتهم التي امتلأت بالأدلجة والتلقين. هذا انسحب على المشهد النقدي الهزيل. بات تفنيد الفيلم السينمائي يستوجب ردوداً حادة، واتهامات لا تخلو من التخوين والعمالة. يُسمح فقط بالتطبيل والتقديس والتصفيق الأعمى. الطرف الآخر شيطان رجيم يجب محاربته وسفح دمائه على الأسفلت. «صداع في الرأس» دفع كثيراً من المهرجانات الوازنة والنقاد الكبار إلى تفادي الأفلام السورية كأنّها لم تكن. مهرجانات أخرى تبنّت الخيار «الثوري» بشكل حازم، ملغيةً أي نفس آخر.
المؤسسة العامة للسينما (تأسست عام 1963) هي اللاعب الوحيد تقريباً داخل البلاد. في 2014، قدّمت أربعة أفلام روائية طويلة، هي: «حرائق البنفسج» (اسم مؤقت) لمحمد عبد العزيز، و«مطر حمص» لجود سعيد، و«سوريون: أهل الشمس» لباسل الخطيب، و«حب في الحرب» (اسم مؤقت) لعبد اللطيف عبد الحميد. عدد مماثل من الأفلام القصيرة، هي: «الباشا» لغسان شميط، و«أطويل طريقنا أم يطول؟» لريمون بطرس، و«فقط إنسان» لريم عبد العزيز، و«طابة أمل» لميّار النوري. يضاف 30 فيلماً قصيراً ضمن منح مشروع دعم سينما الشباب. نشاط يُحسب للمؤسسة في ظل الحرب الدائرة على بعد كيلومترات من وسط العاصمة. المعارضون ما زالوا يتهمونها بالإقصاء والتضييق على حريّة التعبير. في الأفلمة، نلمس طيفاً متنوّعاً يدور في فلك المستنقع السوري، محاولاً التقاط المناسب أو ما يمكن أن يمرّ. مقاربات تتنوّع بين الإنساني البحت أو الظرف المبني على خلفية واقعية أو حتى البعيد كلياً عن الأحداث. السويّة الفنيّة تختلف بين مخرج وآخر. بعضهم تمكّن من ترسيخ مذاق خاص والبناء على ما سبق، باحثاً في بنية السيناريو والصورة ووقع شريط الصوت. مفاهيم تركّز على الانتماء والهويّة والتشبّث بالوطن والتغنّي بدور الجيش ومحاربة التكفيريين.
«ماء الفضة» أعاد أسامة
محمد إلى «مهرجان كان»

في «حرائق البنفسج»، يتابع محمد عبد العزيز البحث في يوميّات أهل المدينة وروّاد زواياها ودروبها. يحفر الأسفلت وينبش الطرق الترابيّة ويدخل أقبية المهمّشين متجّهاً نحو «سينما الشارع» أو «سينما القاع». يجول في المدينة بأساطيرها وحاراتها القديمة وشخصيّاتها الصارخة. بعض من ذلك حاضر في شريطه المينيمالي «المهاجران» (شركة الشرق للإنتاج الفني) عن المسرحية التي تحمل العنوان نفسه. هو أحد أفلام «الزمن الحقيقي» التي تقع أحداثها ليلة رأس السنة، في مكان واحد يضم مثقفاً وعاملاً. هما الإنسان السوري بعجره وبجره. المسحوق والمقموع والقادر فقط على الثرثرة بصوت منخفض تحت الأرض. الشريط يتحدّث عن القمع والعبودية والحاجة إلى الحريّات، ويضرب بالإسلاميين الذين يورّطون الناس تحت ستار الدين.
في «سوريون: أهل الشمس»، يستكمل باسل الخطيب ثلاثية «المرأة في زمن الحرب». مصوّرة تشهد جانباً من الجحيم السوري. ذاكرتها مثقلة بما كابدته خلال رحلة مضنية، تقودها إلى شاب ينتقم من قتلة عائلته وفتاة على مشارف الموت. في نهاية 2014، كنّا على موعد مع العرض الأوّل لـ«الأم»، وهو الجزء الثاني من الثلاثيّة. موت الأم يجمع شتات أبنائها المختلفين في المكان والتوجّه السياسي. ينتصر الفرد لسوريته وانتمائه، ويجنح إلى الغفران ونسيان الأحقاد. الشريط ينحاز إلى التلقين وإيصال الرسائل والتذكير بالبديهيات، على حساب التصعيد وتطوير الشخصيات. في «مطر حمص»، يلاحق جود سعيد مجموعة من الشخصيات في حمص القديمة، خلال الفترة ما بين شباط (فبراير) وأيار (مايو) 2014، حين خرج المسلّحون وانتهى القتال. «يوسف» و«هدى» يحاولان النجاة وخلق الحياة وسط الموت والدمار، برفقة طفلين وشخصيات عدة. هي حكاية خيالية تستند إلى واقع الحرب، وتنطلق عبر الزمان والجغرافيا لرواية الأحداث السوريّة وفق مستويات متعدّدة، تحتفي بالأمل والحياة والحب، وتحيل على تيمة «الهويّة» الحاضرة في كل أفلام سعيد. أما الفيلم الجديد للمخرج الشهير عبد اللطيف عبد الحميد «حب في الحرب»، فيركّز على قصة حب بين جندي على حاجز وفتاة تسكن قرباً منه. الاختلافات السياسية تنال منهما لتصنع الدراما والتصعيد. أفلام المؤسسة حققت عدداً من الجوائز في 2014، مثل «مريم» لباسل الخطيب و«دوران» لوسيم السيد و«الرجل الذي صنع فيلماً» لأحمد إبراهيم أحمد.
على الشاطئ الآخر، حامت معظم أفلام السينمائيين المعارضين حول فكرتين: الانتصار لـ«الثورة» ومهاجمة النظام. بعضها لم يختلف عمّا يمكن أن تصنعه دائرة التوجيه المعنوي في وزارة الداخلية إلا بالتسميات، فيما حققت عناوين أخرى جماليات والتقاطات حساسة. حمص «عاصمة الثورة» كانت محور تسجيليين هما: «العودة إلى حمص» لطلال ديركي و«ماء الفضة» لأسامة محمد وسيماف وئام بدرخان. في الأول، واكب ديركي حراك المدينة من خلال شخصيتين بارزتين هما: عبد الباسط الساروت وأسامة الحمصي. الشريط حقق حضوراً طيباً في المهرجانات الدولية، حاصداً جوائز أبرزها أفضل فيلم وثائقي أجنبي في مهرجان «ساندانس» للسينما المستقلة. «ماء الفضة» أعاد أسامة محمد إلى «مهرجان كان السينمائي» ضمن تظاهرة «عروض خاصة». السينمائي السوري المقيم في باريس، ولّف ما صوّرته بدرخان على الأرض، مع عدد كبير من مقاطع «يوتيوب» الصادمة، وتعليق شعري سجّله بنفسه. «كولاج» سينمائي يفتح النار على النظام دون مواربة أو مهادنة، وينتصر لـ«ثورة» من دون انحرافات أو متطرّفين.
حازم الحموي واضح ومباشر في وثائقي «من غرفتي السورية». ينطلق من لحظات الحراك السوري، ليطلق النار على ثقافة الخوف والقمع وتغييب الحريّات في البلاد على مدى عقود. يفيد من مهاراته التشكيلية في الأفلمة، متأثراً بالمحترف السينمائي السوري مثل «طوفان في بلاد البعث» (2003) لعمر أميرلاي و«صندوق الدنيا» (2002) لأسامة محمد. أما لواء يازجي في باكورتها «مسكون»، فتتناول المأساة السورية من منظور إنساني لا يبتعد عن المكان. علاقة السوريين ببيوتهم وأغراضهم وأثاثهم في حرب مستعرة طاولت الجميع. «هل نبقى أم نرحل؟». يُطرح السؤال القاسي لترتدّ إجابات متباينة من شخصيات الشريط. نذكر أيضاً «بلدنا الرهيب» لمحمد علي الأتاسي وزياد حمصي (الجائزة الكبرى في «مهرجان مرسيليا الدولي»)، الذي رافق الناشط ياسين الحاج صالح في رحلته عبر البلاد. «جرح» لوائل قدلو (أفضل فيلم قصير في مهرجان «عن قرب» الذي تنظّمه «بي. بي. سي»)، يعاين هواجس مسعفة في المشافي الميدانية، وعملها تحت الخطر والضغط.
كل شيء يقول إنّ «السينما السورية» في أمسّ الحاجة إلى إنتاجات مستقلة. «سينما درويشة» وPoor Film من المبادرات التي تحاول تحقيق ذلك. المقاهي والبارات صارت تؤدي دوراً في العرض والترويج مثل ملتقى «يا مال الشام». هناك أيضاً النشاط السينمائي الدائم في «منتدى البناء الثقافي» التابع لتيار بناء الدولة المعارض.