لا تزال «جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت»، تتعامل مع الزمن عبر ساعة رملية، لا لأنّ أنشطتها أصغر من بيروت، المدينة الهائلة، بل لأنها تشدد على تثبيت شبكات القراءة أمام جمهور لا يزال يربط مشاغله وتاريخه بيومياته الاجتماعية. لم يصب الكسل «الجمعية» مع العديد من الأسماء بقيادتها آخرهم الياس ديب. لا يزال الرجل، في ملكة تواجده، يقيم تمريناته العملية على كل ما يؤصل حضور اللوحة في الحياة اللبنانية.
آخر التمرينات ذات مفهومات وأفكار لا تخضع نفسها، للمناسبة، قدر ما تخضع نفسها للمساءلة. ذلك أنّ جمع الفنانين في «معرض الفنون البصرية السادس» في قصر الأونيسكو، سيساهم في امتلاك هؤلاء الفنانين ملكة التواجد ودفعهم إلى التحرر من أوضاع البلاد، المتكيّفة مع كل شيء، سوى الفن. كما سيسهم في التحرّر من أنفسهم، بدفعهم إلى قراءة انتاجاتهم كأشياء جامدة، لا بد من تأصيل حضورها، لا بالتشبث بها، بل بالقفز فوقها وفوق اساليبها. الأساليب لا تشكل سياقاً في العرض، في النحت والإنشاء والإبداع اللونيين. السياق مصدر إيحاء. لعل المعرض الآخر (المقبل)، ينخرط في هذا المفهوم من دون أن نعتبر أنّ فرد اللوحات، الكثيرة، غير المتشابهة، خدعة لا علاقة لها بالتاريخ، قدر ما لها علاقة بالجغرافيا.

كل لوحة ولادة خاصة. ولادة استدراج علاقة بالحتميات الباهتة أو بالعلامات المزدوجة

لا تسميات ولا توصيفات مغالية. هذا صحيح. غير أن ما عُلِّق على جدران قصر الأونيسكو لا يقدم في عصر العمولمة المتنامي، فوضى مرئية رنانة. هنا، الفن اللبناني المعاصر. ليس كله. بعض حضوراته الفيزيائية والروحية، بانضواء كامل في الزمن الجديد. لا تزال اللوحة اللبنانية ذات حضور. لا تزال تطرح أسئلة الهوية. وتبوح كما يبوح عاشق بمصادر إيحاءاتها. لا تزال تريد توكيد البداءة، من التوازن اللوني إلى الطبقات التحتية، وصولاً إلى الهارمونيا بين الظاهر والباطن. حلو اللوحة ومرها. حلوها ومرها، بالتفاوت، بعدم بناء لحظات اللقاء بين اللوحات. بين لوحة توضح معناها بطريقة جديدة، كما هي الحال مع لوحة الفنان حسن جوني. لوحة لا تترجم هوى الفنان، بالتعبيرية المجازية، حين تقود التعبيرية إلى كتابة طقس تشكيلي خاص. ذئاب تهاجم المدينة. لا تخلط اللوحة الواضح بغير الواضح، ما تفعله بعض اللوحات الأخرى، لأن جوني شأنه شأن بعض الفنانين الآخرين، صاحب لوحة بعيدة عن الذبذبة التشكلية، من بلوغها الواضح للانتماء الواضح. طريقتها عابرة للحدود. خلق بالمحيط، بتفكيرات العمل المعاصر. وقائع محسوسة ويومية، يدفع بها الفنان خارج الأوهام، بتقنيات الظواهر الحركية، بتجريب مستمر وبدون إيضاحات. وبين لوحة بعيدة عن الهبوب. لوحة الياس ديب، لا تتوقع ردود الفعل وهي تحشد نفسها بكافة التأويلات المعقولة. لوحة تعلّق نفسها على الريح لا على الحائط. لوحة ضد أقراص العمى. أربعة أجزاء، يُعِّرف الجزء منها بالآخر (عرس...). تسخر هذه اللوحة من اللوحات التقليدية، بدون سخرية مباشرة، بإفادة كاملة من الوعي بالمسائل الجوهرية بالفنون المعاصرة.
كل لوحة ممارسة. كل لوحة ولادة خاصة. ولادة استدراج علاقة بالحتميات الباهتة أو بالعلامات المزدوجة. لن يُضم عمل ميشال روحانا (أكواريل منظر طبيعي/ اكسترا واقعية) مع لوحة تجريد فادي زيادة (الزمن). لا تستطيع اللوحتان العيش معاً، لا لأنهما لا ترغبان بالتعايش، بل لأنّهما لا تستطيعان التعايش، إلا بدفاتر المفكرات. لكل ذاتها. لكل أسلوبها. غير أن اللوحتين لا تمتلكان قوة دلالية واحدة. لا تمتلكان ماء واحداً وملحاً واحداً. هذا ضروري، إلا في معرض جماعي، يتوجه إلى جمهور محدد. لوحة ليلى كبه لوحة سرادق وطنية، تشرح الكتابة بالتراث، من إفادتها من التجارب التراثية. لوحة ماي ياسين (تشيللو) لوحة فنون مطبقة على قياسات الجاهز، أو هي ترجمة رؤية حتمية، لأنها تسبق الرؤى بالفنون الخاسرة. لوحة ندى طرابلسي، لوحة جمهور أول للفنون التشكيلية. الميكس ميديا في لوحة ربيع اندراوس، لا تتخطى أفخاخ الفنون الحديثة، وهي تستخدم ما يمتلك الفنان من إدراك بعيد عن إدراك المتخصصين. كل لوحة عالم. لوحة وجيه نحلة لوحة فنان تلوين، تبحث ألوانه في أمور القارة. عشرات الأسماء، بين مفاهيم التحرير ولعنات الانتقام من كل أمر فني. حربٌ تهدد بالاندلاع في كل لحظة، بين ذئبية البعض وصبيانية البعض الهائجة. عقل ساحة عند البعض، ومتاهة لدى آخرين. هنا، ما خفي من تجعدات الكون، وهناك عزف على قيثارات التشكيل. عصب الفكر بالفكرة، لا باللوحات الخاضعة إلى المسلمات أو الخارجة عليها. الفكرة بأن الهندسة المعمارية في صفّ اللوحات إلى جانب بعضها، سوف تتبعه تجارب ملفوفة بملاءات الخير التشكلية الندية. عقل رياضي في أول الأمر، ثم وقوف على نوافذ العين. لا تبرر القصيدة حضورها، ولو حجبها لبعض الوقت، بطن المحارة. لا سوية في المعيار. لا سوية منهجية. واقعية في جوارها تجريد، وواقعية سحرية وتعبيرية وترميز وتكعيب وتعريب. كل شيء. «معرض الفنون البصرية السادس» دعوة إلى الخروج من الخمول التشكيلي، خروج على الظلال، في الطريق إلى استبيان ضوء الشمس، على لوحة المتوسط. لوحة غنية بالأضواء. لا ينقص، إلا استخراجها. من «قصر الأونيسكو»، سينتقل المعرض إلى «مركز العزم الثقافي» في في طرابلس غداً ويستمرّ حتى السادس من تشرين الثاني (نوفمبر).