اختُتمت، أمس، الدورة الـ17 من «مسابقة شوبان» في العزف على البيانو بأمسية لصاحبة المركز الثالث، بعدما صدرت النتائج في ليل 20 ــ21 تشرين الأوّل (أكتوبر). وقدّم أصحاب المركزَين الأوّل والثاني أمسيتهما في 21 و22 من الشهر نفسه. المسابقة التي تجري في بولونيا، بلد شوبان، كل خمس سنوات، تقدَّم إليها أكثر من 450 عازف بيانو مولودين بين 1985 و1999، كما تقتضي شروط الاشتراك. من بين هؤلاء قُبِلَت طلبات 160 قبل أن تتم الغربَلَة الأولى وينسحب 6 من المشتركين المقبولين ليرسو الرقم على 78 متبارياً (كادوا يتساوون بين إناث وذكور) من 20 دولة. بعيداً عن البيانو والمنافسة، تخلل المسابقة، كالعادة، أداء «القداس الجنائزي» لموزار، استعادةً لرغبة شوبان الذي أوصى بعزف هذا العمل خلال مراسم دفنه. جرت الأمور هذه السنة بهدوء، فلَم تحصل ضجّة بسبب اختلاف وجهات النظر بين أعضاء اللجنة التحكيمية، كما في الدورة الـ 16 (عام 2010) التي احتلّت فيها الروسية يوليانا آفديفا المرتبة الأولى، بينما اعتبر البعض أنّها من حقّ النمساوي إنغولف فوندر الذي حلّ ثانياً (أثبت لاحقاً أنه ظُلِم من خلال تسجيلاته المحترمة). هكذا، حاز المرتبة الأولى الكوري الجنوبي سيونغ ــ جين شو (1994 ــ الصورة)، وحلّ الكندي شارل ريشار ــ هاملان ثانياً، والأميركية كايت ليو ثالثة.

فريدريك شوبان (1810 ــ 1849) الذي يرقد قلبه في بلده الأم وجسده في بلده الثاني فرنسا، هو أهم إرث وطني في بولونيا. فهو محور البلد كما هي الحال في البلدان «الطبيعية» التي تقدّر عظماءها، فتسمّي شوارعها وساحاتها العامة ومطاراتها بأساميهم، وليس بأسامي سياسيّين ومستعمرين، كما في بلدنا… بلد عاصي الرحباني!
شوبان الذي أعطى البشرية مجموعة كبيرة من أجمل أعمال البيانو تعرف بولونيا قيمته. تعرف كيف تكرّمه. تدرك أنّ تخليده لا يكون بمديح فارغ لن يسمعه المعني به، بل بمسابقة تجعل العالم يسمع أعماله بأجمل طريقة ممكنة. فبالنتيجة، عازفو البيانو الذين يتقدّمون إليها، يتبارون على أمر واحد: تقديم أفضل أداء لأعمال شوبان. تفرض المسابقة المرموقة على الموسيقيين الشباب من أصقاع الأرض أداء أعمال شوبان حصراً، لتجعل منهم «خدماً» عند «ملك» البيانو. هم خدمه، خدمةً للإنسانية جمعاء وليس لشخصه.
في العالم مسابقات كثيرة خاصة بالبيانو، ويفرد بعضها مساحةً لهذه الآلة من دون أن ينحصر بها، مثل «مسابقة تشايكوفسكي» التي جرت منذ بضعة أسابيع (ولنا عودة إليها في سياق مختلف خاص بلبنان، نعلنه في حينه) والتي يتبارى فيها عازفو بيانو وكمان وتشيلّو، إضافة إلى مغنّي أوبرا. لكن لـ «مسابقة شوبان» رونق خاص وأهمية كبرى في عالم البيانو. إنّها بمثابة «نوبل» لهذه الآلة.
انطلق هذا التقليد عام 1917 وتوقف خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بقليل. يحتل الاتحاد السوفياتي سابقاً المرتبة الأولى من حيث عدد أبنائه الفائزين بالمرتبة الأولى (5 تضاف إليهم الروسية يوليانا آفديفا الفائزة بالدورة السابقة)، تليه بولونيا التي فاز أربعة من مواطنيها بالمسابقة. في هذا السياق، نشير إلى أمر غريب هو عدم فوز أي ألماني بالمراتب الثلاث الأولى في تاريخ المسابقة، فيما كان أوّل ظهور لألمانيا عام 1932 عبر احتلال أحد مواطنيها المرتبة 12 (!). وأبرز ظهور هو نيل فتاة ألمانية المرتبة السادسة عام 1937. الأغرب من ذلك، أنّ هذه السنة لا يوجد أي مشترك (ة) من ألمانيا ولا النمسا ولا فرنسا، علماً بأنّها بلدان لها مكانتها التاريخية والحالية في هذا المجال.
على سبيل المثال، تحتل الصين هذه السنة المرتبة الثانية من حيث عدد المتبارين في المرحلة الأخيرة (13)، بعد البلد المضيف (14). قد يُفهَم الرقم الصيني الكبير نظراً لبلد يعيش فيه ربع سكان الكرة الأرضية. وكذلك الرقم البولوني من منطلق وطني، لكن اليابان ــ البعيدة سنين ضوئية جغرافياً وثقافياً عن بولونيا، والمتواضعة من حيث عدد السكان مقارنةَ بالصين ــ شاركت بـ12 متبارياً هذه السنة! هذا غريب، لكن الأغرب هو كوريا الجنوبية التي وصل 9 من أبنائها إلى المرحلة الأخيرة، انسحب واحد منهم وانتزع آخر المرتبة الأولى (وهذه سابِقَة).
لا تفسير منطقياً لهذه الأرقام (الصينية، واليابانية، والجرمانية، والفرنسية) الغريبة سوى أنّ آسيا تحتاج إلى «الاعتراف البولوني» في العزف على البيانو بينما لا تكترث إليه ألمانيا أو النمسا أو فرنسا.
بالمناسبة، شارك اللبناني رئيف أبي اللمع في لجنة تحكيم «مسابقة شوبان» عام 1970، لكن لم يفز أي عربي بأي من المراتب الأولى في تاريخ المسابقة (هذا في حال حصلت مشاركة أو أكثر في الدورات القديمة التي لا يمكن العودة إلى أرشيفها). ولم يشارك أي عربي في الدورة الحالية… تماماً كألمانيا لكن لأسباب مختلفة جذرياً طبعاً!
أخيراً، ومن مفارقات «مسابقة شوبان» نشير إلى اعتراضات صائبة أو أحكام فاشلة قد تصدر عن العضو نفسه في لجنة التحكيم، كما فعلت العظيمة مارتا آرغيريتش في 1980 و2010. كذلك، بعض من فاز بالمرتبة الأولى في هذه المسابقة لم ينجح في مسيرته المهنية لاحقاً. وبعض من فشل فيها أصبح رمزاً للبيانو (الكرواتي بوغوريليتش مثالاً). إنّ اللعبة أعقد بكثير. إنّه البيانو!