في اليوم الأخير لي في القاهرة قبل عودتي للكويت مطلع هذا الشهر، تلقيت اتصالاً هاتفياً من رقم لم أتعرف إليه. وحين ميزت صوت المتصل، هتفت «أستاذ جمال، صباح الجمال»، ورد بصوت مبتسم «والله صباح الجمال أنت». كنت سعيداً جداً باتصال الغيطاني، لأنه كان يُفترض أن ألبي دعوة للإفطار معه وعائلته، لم تتحقق بسبب تعرضهم جميعاً الزوجة والابنة والابن، بالإضافة إلى الحفيد مالك، لتسمم غذائي حاد اقتضى إدخالهم المستشفى لعشرة أيام متواصلة.
كنت أتابع أخبارهم عن طريق زوجته السيدة ماجدة الجندي التي تربطني بها علاقة زمالة وصداقة وأمومة، لكني استشفيت منها مدى تأثر صحة الغيطاني بهذا التسمم. لذلك، سعدت جداً حين أتاني صوته مستعيداً لصحته وحيويته. تحدثنا مطولاً عن أزمة الرقابة على الجودة في مصر، والفساد، والطبقة الجديدة من رجال الأعمال الذين يستثمرون أموالهم عبر علامات تجارية تجتذب الطبقات الراقية بينما يفتقدون أدنى معايير الرقابة على العمال الذين يوظفونهم. وهالني اعتذاره عن عدم تمكنه من حضور احتفال توقيع روايتي، فيما كان جبيني يندى خجلاً، وأنا أعلم جيداً الظرف الصحي الذي يمر به. ثم أخبرني أنّه في المقابل كان حريصاً على الحصول على الرواية، وأنه شرع في قراءتها ثم أضاف لاحقاً أنه إذا كان وجودي في الكويت يوفّر لي فرصة الكتابة بهذا الشكل، فعليّ أن أستمر في ذلك لفترة. والحقيقة أنني أحب هذا الجانب النبيل في شخصية الغيطاني: الرعاية والدعم واختلاق الفرص للتشجيع والدفع بالكتابة الشابة. وقد فعل ذلك معي وغيري في «الأخبار» و«أخبار الأدب»، وكتب عن الكثير من الشباب، وأفسح المساحات لإبداعاتهم، كما قدم بعضهم في برامج تلفزيونية حوارية قدمها في منتصف الألفية.
أظن أن بإمكان من عملوا معه بشكل يومي ومباشر أن يكتب كل منهم عنه كتاباً، وأكاد أتنبأ بالكثير من تفاصيل هذه الكتب لو أُنجزت. لكن ما يهمني الإشارة إليه هنا الكيفية التي كان يتعامل بها مع كتيبة المبدعين من محرّري «أخبار الأدب»، باعتبارهم نجوماً وكتّاباً كباراً. منذ اليوم الأول لعمل كل منهم، وبحكم عملي في «الأهرام»، ولقرب المبنيين المتجاورين، كنت أمر عليهم كثيراً في مقر «أخبار الأدب». كنت أشهد في كل زيارة حواراً مطولاً بين الغيطاني وواحد منهم في شأن عام أو عن ظاهرة ما تشغله أو في بعض تفاصيل العمل. وكنت أغبطهم حقاً بالعمل مع رجل مثله. وأظن أن هذا النبل أحد معادلات النجاح الكبير الذي حققته «أخبار الأدب».
أعتبر نفسي محظوظاً لكوني أحد من أتيح لهم الدخول إلى صومعته، غرفة الكتابة والقراءة في منزله. واطلعت على نوادر ما تضمّه من مخطوطات وكتب في التراث والآداب، بينها نسخة من «وصف مصر» مثلاً، وعدد هائل من كتب الفن التشكيلي بلغات أجنبية، ومكتبة موسيقى عالمية من كل ثقافات العالم. تعرفت إلى «جنة الكتابة» التي يعيش فيها وينتج فيها إبداعاته ومقالاته، خافضاً رأسه حين ينكب على العمل، مانحاً الفرصة لشخص واحد فقط أن يكون مراقباً له. حين لمحت اللوحة، ضحك قائلاً: «هذا هو الكبير»، وكانت الصورة لدوستويفسكي.
استدعيت وما زلت أستدعي الكثير من مواقفه وذكرياتي معه، وحكايات كثيرة أخرى منذ علمت بانتقاله إلى المستشفى. قالت لي ماجدة الجندي بصوت متهدج حاولت أن تشغله وتجعله متوازناً بتكرار ما يقوله الأطباء عن حالة الغيبوبة التي يمر بها. استدعى ذلك عندي ما حكاه لي يوماً عن تجربة نومه في تابوت في الهرم الأكبر، قائلاً إنه من فرط الظلام والهدوء كان يشعر بملمس الصمت. قالت لي ماجدة الجندي إنّ ما حدث يشبه إنهاكاً من فرط إجهاد المخ الذي أوحى للجسد أنه يمرّ بأزمة قلبية. «كان بيشتغل 23 ساعة يا ابراهيم». لهذا، زاد يقيني بأن ما كان يمرّ به ليس سوى استراحة محارب أنهك نفسه في التفكير والعمل، بجد ودأب. لذلك ولأسباب أخرى عدة، ما زلت أؤمن أنه قد يفيق ليحكي لي تجربة وعيه الغائب في ملكوت أفكاره عن الزمن والعالم والحياة والأدب.