بيروت تحتفي بـ «الزمن الباقي» في عرضه العربيّ الأوّل عثمان تزغارت
بعدما جاب المهرجانات العالمية، من «كان» إلى «تورنتو»، ومن «لندن» إلى «أبو ظبي»، يحطّ السينمائي الفلسطيني في بيروت، لتقديم العرض الأوّل (باستثناء فلسطين) لفيلمه «الزمن الباقي» غداً في إطار «مهرجان السينما الأوروبية». لم يكن مبالغاً وصف الشريط لدى مشاركته في «مهرجان «كان» الأخير، بأنّه أنضج فيلم شهدته السينما العربيّة! صاحب «يد إلهية» يقدّم هنا فيلماً مبهراً، يستعيد وقائع 60 سنة من حياة الشعب الفلسطيني منذ النكبة، عبر بورتريه عائلي مستوحى من سيرة ثلاثة أجيال من آل سليمان (جدّته ووالده وهو). فضلاً عن مضمونه السياسي المتمثّل في المرافعة عن حقوق شعبه، يتّسم الفيلم برؤيةإخراجية ناضجة ومتينة، وفكاهة سوداء جعلته يرقى إلى مصافّ روائع «سينما السخرية السوداء»، على خطى الأخوين غروشو وهاربو ماركس، التي تخرّجت من معطفها أجيال من السينمائيّين المميزين، أمثال الأخوين كوين، والمعلم آكي كوريسماكي.
في هذا العمل، يواصل سليمان ما بدأه في باكورته «سجل اختفاء» (1996) من تسليط الضوء، بأسلوب باروكي فاقع، على مظالم الاحتلال، وما لحق بالشعب الفلسطيني من تعسف وقهر... لكن بعيداً عن أي خطابية أو منحى ميلودرامي. أعماله تستوحي تجربة بيوغرافية مريرة، عمرها 60 سنة من الاحتلال ومحاولات التهجير وطمس الهوية. إلا أنّه لا «يبكي على الأطلال»، ولا يمجد البطولات العنترية الزائفة، بل يسلّط نظرةً ساخرة على الواقع الفلسطيني تُبرز مفارقاته وتضحك منه «حد البكاء»، كما قال بعد العرض العالمي الأول للفيلم في «كان».
في مشهد سيبقى في ذاكرة الفن السابع، يصوّر سليمان نفسه عالقاً في الضفة، حيث ذهب للتعزية بوفاة أحد أقاربه. وإذا بجدار الفصل يحول دون عودته إلى بلدته الناصرة. هكذا، يلجأ إلى حيلة سينمائية تتمثّل في اجتياز الجدار العازل عبر القفز بالعصا، كما في الألعاب الأولمبية! وفي مشاهد أخرى، يسخر من «جيش الإنقاذ الذي لم ينقذ أحداً» بل يهيم جنوده تائهين، سائلين المارة عن الطريق إلى القرى التي تدّعي أدبياتهم أنهم حرّروها. ثم يتهكّم سليمان على المدرسّين الفلسطينيين الذين يحكون عن المقاومة والتحرير، لكنّهم يرغمون إيليا الطفل ورفاقه في المدرسة على أداء النشيد الإسرائيلي!
كأن سليمان يعود من حيث بدأ في «سجل اختفاء»، ونشير هنا إلى المشهد الذي أثار جدلاً آنذاك: مشهد والديه العجوزين في منزلهما في الناصرة (فلسطين المحتلّة عام ١٩٤٨)، وقد غلبهما النعاس أمام التلفزيون الإسرائيلي الذي يبثّ في ختام برامجه النشيد الوطني الإسرائيلي مع صورة علم الاحتلال الخفّاق!
رغم أهمية مضمونه الذي يضع اليد على الجراح، فإنّ فرادة «الزمن الباقي» تكمن أساساً في لغته البصرية، وسماته الأسلوبية الآسرة التي قارنها النقاد الغربيون بأفلام باستر كيتون وجاك تاتي.
صحيح أنّ سليمان يغرف من عوالم كيتون وأسلوبه في الأداء الكوميدي الساخر. هو مثل صاحب «صبي الجزار» (1917) يعتمد الصمت والإيماء، و«الفكاهة الباردة» القائمة على المواقف السريالية والعبث والسخرية. صحيح أيضاً أنّ سينما صاحب «سجل

نظرة ساخرة إلى مفارقات الواقع الفلسطيني، تضحكنا «حدّ البكاء»

اختفاء» تحمل بصمات من المعلم الفرنسي جاك تاتي، وخصوصاً لجهة المنحى المينيمالي ومنح الخلفية الموسيقية مكانةً أبرز لتصبح واحدة من شخوص الفيلم الرئيسة. مثلاً في رائعته «خالي»، وظّف تاتي الأكورديون والغناء الشعبي لإبراز النقلة المفصلية في باريس الخمسينيات من عالم ما بعد الحرب العالمية المثخن بالجراح، إلى المجتمع الاستهلاكي المنغمس في الملذات والفردانية. على غرار ذلك، وظّف سليمان الطرب العربي في أفلامه شكلاً من أشكال التوريّة. كأنّه تمسك أهل فلسطين التاريخية بهويتهم العربيّة في مواجهة محاولات طمس الهويّة والذاكرة.
لكن «الزمن الباقي» يقترب أكثر من سينما شارلي شابلن في مرحلته الانتقالية التي أسّست للمفترق المفصلي بين السينما الصامتة والناطقة، وخصوصاً «أضواء المدينة» (1931)، حيث وظف شابلن الموسيقى كبديل عن الحوار (سواء بشكله المكتوب في السينما الصامتة أو المسموع في السينما الناطقة)، وجعلها أداة تعبير مكثّفة تغني عن الخطابية والإطناب.
في «الزمن الباقي» يوظّف سليمان هذا الأسلوب «الشابلني» لتصوير الغضب الكامن والمقاومة الصامتة لدى فلسطينيي 48، سواء كانت مقاومة فاعلة، كما في مشهد القفز بالعصا على جدار الفصل العنصري، أو مقاومة كامنة، كما في مشهد الجدة الجالسة عند شرفة بيتها في الناصرة، وإذا بالألعاب النارية تُطلق احتفالاً بالذكرى الـ 60 لتأسيس إسرائيل، فتدير ظهرها، وتشيح بوجهها نحو البيت حيث يقوم حفيدها (إيليا سليمان) بتشغيل المذياع على موسيقى عربية. وسرعان ما تبدأ الجدة ذات الخطى المثقلة بالتفاعل معها، عبر الرقص بتحريك قدميها، في حركة تحمل هموم ستين سنة من النكبة.


7:30 مساء غد الثلاثاء (بناءً على دعوة خاصة) ـــــ «سينما متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية/ بيروت). للاستعلام: 01/204080 ـــــ يبدأ العرض التجاري للشريط في لبنان يوم 17 ك١/ ديسمبر المقبل