«نوبل» الجنوب أفريقي ثلاثة رجال في رجلأحمد الزعتري
لنتخيّل للحظة أن كويتزي رجل ثالث، وأن الشخصين الآخرين هما كويتزي الآخَر، وكويتزي الكاتب. انطباع كويتزي عن نفسه أنه بلا حضور جنسيّ. انطباع الآخر عن كويتزي أنه «طائر غير قادر على الطيران» وانطباع الكاتب عن كويتزي أنه يكتب عن نفسه بصيغة الرجل الثالث. أصدر الروائي الجنوب أفريقي ج. م. كويتزي (1940) أخيراً كتاب السيرة الذاتية «زمن الصيف» عن هؤلاء الثلاثة. الكتاب جزء ثالث من سلسلة سيرته المتخيّلة التي أصدر منها «الصّبا» (1997)، و«الشباب» (2002).
في Summertime، يصوّر صاحب «نوبل للآداب» (2003)، نفسه رجلاً ضعيفاً ومهزوزاً، عاجزاً عن التواصل مع مجتمعه، ومسكوناً بهاجسجاذبيته الجنسيّة المفقودة. هذا الثلاثينيّ العائد من أميركا، بعدما حصل على الدكتوراه في اللغويات، يجد نفسه في مجتمع هجره منذ 10 سنوات، ملتحقاً بوظيفة متواضعة هي التدريس في «جامعة كايب تاون»، ومحاولاً إيجاد توازن بين العمل على مخطوطته (رواية Dusklands)، وإعادة التواصل مع والده الذي يعود للعيش معه.
تبرز في «زمن الصيف» قضية التوحُّد والعزلة الثقافية المتأصلة في أعماله. فكرة أنه من أصول هولنديّة، ستسيطر على أعمق رغبات كويتزي. نقرأ في الرواية: «ربما هكذا يتصرف البروتستانت الهولنديون عندما يقعون في الحبّ». هذا الشعور تراكَم عبر عمله «الصِّبا»، حيث يسرد حكاية الصبيّ الذي عاش في وورشيستر وكايب تاون في نهاية الأربعينيّات وبداية الخمسينيّات... صبيّ من أصول أوروبيّة يشعر أنه لا ينتمي إلى ثقافته في جنوب أفريقيا. وكذلك هو عمله الآخر «الشباب» الذي يحكي سيرته عندما هاجر إلى لندن ليعمل مبرمج كمبيوتر في IBM نهاية الستينيّات، محاولاً أن يكتب الشِّعر، والتواصل مع مجتمع جديد عليه ثقافيّاً.
ربما يعمل كويتزي ضدّ كويتزي في أعماله، دائماً ما تجد شخصاً ثالثاً يُفاقم الإحساس بالعزلة: أشخاص متهتكون يعيشون على هامش الحياة كأن لا لزوم لهم، أصحاب نزوات وانطباعات باردة ونزقة عن العالم... في الواقع، لن يكون العالم إلا فكرة قذرة في أذهان شخصيات كويتزي: «ليس لي من عزاء مهيب في أي من هذا. وعندما أستيقظُ متأوهاً في الليل، ذلك لأنني أحيا في أحلامي ثانيةً أحقر حالات الخزي. ليست هناك من طريقة مباحة لي للموت، غير أن أموت مثل كلب في زاوية ما». (من روايته «في انتظار البرابرة»).
هكذا يدفع كويتزي بشخصياته، كي لا نقول أبطاله، إلى مواجهات قاسية تستنفد طاقاتهم في البحث عن حلول لقضايا أخلاقيّة. يدفع بهم إلى تلك الزاوية الضبابيّة، وهو يعلم أن تلك القضايا لا علاج لها إلا الوقت، أو أن الوقت نفسه هو المشكلة: قاضي بلدة خارج الزمن يرفض وجود البرابرة، فيسجنه رجال الامبراطورية في انتظار حقيقة البرابرة في روايته «في انتظار البرابرة» (1980). مايكل ك. يحمل رماد جثة أمه، متضوراً من الجوع في الجبال في «حياة وأزمنة مايكل ك» (1983). السيدة كورين تحتضر من

شخصيّات متهتكة، لا لزوم لها، تعيش على هامش الحياة

السرطان بينما تحرق قرية يسكنها السود فيُقتل ابن خادمتها في «عصر القوة» (1990). حتى دوستويفسكي يحاول تقبّل وفاة ابن زوجته في «سيّد بطرسبورغ» (1994). هنا تحديداً يظهر أثر المعلم الكبير صموئيل بيكيت كأن شيئاً لم يتغيّر على العالم: العبث والاستسلام نفسهما... يدعو أحدهما الآخر للمسير، «لنذهب» يقول، «لنذهب» يردّ الآخر (كما «في انتظار غودو»)... لكنّهما لا يتحركان.
إلا أنّ كويتزي يبتعد عن بيكيت في اللغة. هنا تتواطأ لغة كويتزي معه، تتملّك القارئ الذي لن يتمكن من قراءة كويتزي كيفما اتفق: «الأطفال يلعبون في الثلج ثانية، في وسطهم، والظهر نحوي، هو الشكل ذو القبعة للفتاة، وبينما أنا أجهد نفسي نحوها، تكون في لحظات قد اختفت عن النظر خلف ستارة من ثلج متساقط. تغوص قدماي عميقاً إلى حد أني لا أقدر على رفعهما. كل خطوة تستغرقُ دهراً. إنها أسوأ ثلوج تساقطت في أحلامي» (في انتظار البرابرة).
هذه اللغة الشعريّة والأسلوب السردي المحكم والأقرب إلى الكلاسيكيّة ستظهر على نحو شكسبيريّ «أسمع الضربة وهي تنزل، أستدير لألقيها. تتلقاني فوق الوجه تماماً. أنا أعمى، أعتقد ذلك، مترنحاً إلى الخلف نحو الظلمة التي تسقط في الحال» (في انتظار البرابرة). الستار سيُرفع فعلاً، إذ سيقدَّم عمل أوبراليّ مقتبس عن روايته «رجل بطيء» في عام 2010 بتوقيع الموسيقيّ البلجيكي نيكولاس لينز. وكان عمله الشهير «خزي» قد تحول إلى فيلم حمل الاسم نفسه (2008).
يقيم كويتزي حالياً في أستراليا بعدما حصل على جنسيتها. أسترالي ولد في جنوب أفريقيا ومن أصول هولنديّة. هو الآن الرجل الثالث في هذه المنظومة، أو أنه يحاول أن يهب لنفسه تلك العزلة التي لم تخرجه منها جائزتا «بوكر» عن «خزي» (1999) وقبلها «في انتظار البرابرة» (1980) التي صدرت نسختها العربيّة عن «المركز الثقافي العربيّ» بترجمة تستحق الإشادة لابتسام عبد الله. تجاهل كويتزي مرتين حفلة توزيع الجائزتين، ولم يخرج من عزلته تلك إلا عام 2003، بجائزة «نوبل».

كيف وصل «غودو» إلى بلد الأبارتايديمكن الحديث عن تأثير بيكيت على كويتزي بأكثر من طريقة: أكاديميّاً، وأدبيّاً وحتى شخصياً. بدأ تأثير بيكيت يظهر على كويتزي عمليّاً. حصل هذا الأخير على درجة الدكتوراه في اللغويات من جامعة تكساس (1969)، بعدما قدم بحثه عن الأسلوب اللغوي في أعمال بيكيت. وحتى الآن، يحاضر كويتزي من حين إلى آخر عن أعمال بيكيت. وكان آخر هذا الالتصاق أن كتب كويتزي مقالاً في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» عن رسائل بيكيت التي صدرت أخيراً (راجع الصفحة المقابلة).
وفق ستيفن ماثيو في كتاب «ميراث بيكيت الأدبي» (Cambridge Scholars Publishing ـــ 2007)، فإنّ «في تأثير بيكيت على كويتزي أكثر من علاقة شخصيّة وواضحة، ليس فقط بسبب قراءته النقدية لرواية بيكيت Watt التي منحته درجة الدكتوراه، بل لأنه يدين إلى الرواية نفسها أيضاً بالمكانة الأدبية التي وصل إليها بعد كتابه «الصبا» (..). شكّل بيكيت أعمال كويتزي جماليّاً وسياسيّاً».

كاتبان حقيقيان جمعهما العبث وحبّ الدراجات الهوائية


لا يمكن القارئ إلا أن يلاحظ ذلك البطء «البيكيتيّ» في أعمال كويتزي؛ أشباح شخصيات بيكيت تعاني اليأس العبثي نفسه لدى كويتزي، مثل شخصية بول في روايته «رجل بطيء» (2005). بول يفقد ساقه في حادث طريق ويعزل نفسه في منزله محاولاً التكيّف مع إصابته، مشلولاً وبلا حل حاسم. يخلص كويتزي في هذه الشخصيات إلى ما قال مرةً إنّه تعلّمه من بيكيت: «الالتصاق بالعلّة»، بمعنى آخر، أن تتمتّع بالحساسية تجاه العالم الأكثر قتامةً.
تلك العلاقة الشخصية التي يتكلّم عنها ستيفن ماثيو تمسّ الرجلين بطريقة تكاد أن تكون طريفة: حب الرجلين للدراجات الهوائيّة: بيكيت كان متحمساً للدراجات الهوائيّة، واشترك في سباقات عدة. وقد ظهر ولع بيكيت بالدراجات الهوائية في أعماله، حتى أنّ النقاد استغربوا عدم ظهورها في «في انتظار غودو». وهي، إن ظهرت، ترمز إلى الأمل. ما يشير إلى انعدام الأمل في التغيير. أما كويتزي، فيهوى الدراجات أيضاً إلى حد أنّه قام برحلات عدة عليها في فرنسا. باختصار، يمكن اقتراح أكثر من طريقة للجمع بين الكاتبين، إلا أن أهم نتيجة يمكن الوصول إليها أنّ العالم زائف إلا إذا نظرنا إلى قذارته. وهذا ما يجعل بيكيت وكويتزي كاتبين حقيقيّين.