يسرد الباحث إبراهيم بيضون في كتابه الصادر عن «مكتبة بيسان» كيف أُبعدَ علي قسراً عن الخلافة لثلاثة عهود وكيف مثّل التباس مفهوم الشورى مدخلاً لصراع مفتوح على السلطة
علي السقا
يستعيد الباحث إبراهيم بيضون تفاصيل مرحلة مهمة من التاريخ الإسلامي في كتابه «الإمام علي ــــ في رؤية «النهج» و«رواية» التاريخ» (مكتبة بيسان). يحاول الأستاذ في «الجامعة اللبنانيّة» التدليل على الالتباس الذي يعتري بعض المحطات والمفاهيم. في الطبعة الثانية من هذا الكتاب الذي حاز «الجائزة الأولى في مهرجان الإمام علي في إيران»، نكتشف، في ضوء تجربة الإمام علي، كيف مثَّل التباس مفهوم الشورى، بين الجوانب النظرية والعملية، مدخلاً لصراع مفتوح على السلطة. صراعٌ استخدمت فيه أدوات الموروث الثقافي القبلي السابق للإسلام.
يوثّق الكاتب طرحه في وقائع عدة. أوّلها شعور عام ببديهية انتقال الخلافة إلى علي بعد رحيل الرسول. هذا الشعور راوح بين التشديد على حق بني هاشم في الخلافة، والتأكيد على أحقيّة علي بها استناداً إلى مناقبيته وريادته في الإسلام. إضافةً إلى اطمئنان الإمام نفسه إلى هذه المسألة بقوله لعمِّه العباس «هذا أمر ليس نخشى عليه».
في هذه الأجواء، جاء الاجتماع المفاجئ للأنصار في سقيفة بني ساعدة ليخلط الأوراق، فسمّوا سعد بن عبادة خليفةً للرسول، بحثاً عن تثبيت مصالحهم «لا سيما أنّ اتحاد الجبهة القرشية بعد فتح مكّة كان يهدد باختلال التوازن لغير مصلحتهم». بعد هذا الاجتماع، بادر عمر بن الخطاب إلى«توظيف المناسبة لهزّ المناخ السائد وما كان يتردّد عن حسم أمر الخلافة لعليّ»، بحسب الكتاب. أضف إلى ذلك تصريح أبي بكر بوسطيّة قريش حين قال «نحن أوسط العرب داراً ونسباً».
هذه المعادلة عجّلت لاحقاً من بيعة أبي بكر، بعد انفضاض عقد الأنصار وانقسامهم إلى شيع، كما غذت شعوراً ضمنياً لدى بعض المهاجرين برفض تكريس الخلافة في بني هاشم إلى الأبد. سيستغل عثمان الواقعة، من أجل حصر الخلافة بقريش.
لكن كيف تعامل الإمام علي مع هذه الوقائع؟ يشير المؤلف إلى اجتماع قطبي الإسلام علي وأبي بكر ومصارحة الأول للثاني بأحقيته في الخلافة، من دون أن يبخس عليه حقّه فيها. وقال علي: «لم نبايعك يا أبا بكر إنكاراً لفضيلتك ولا نفاسة عليك، لكنّنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً لنا فاستبددتم به علينا». لكنّ علي الحريص على الوحدة الإسلامية كما يؤكد المؤلف، سيعلن بيعته لأبي بكر تلافياً لاتساع الشرخ الحاصل بين المسلمين.
يسرد الكتاب كيف أُبعدَ علي قسراً عن الخلافة لثلاثة عهود، رغم بقائه قطباً بارزاً وقاضي القضاة في عهد عمر، يستفتيه الأخير في القرارات الكبرى ويسلمه بيت مال المسلمين. لعلّ أسوأ المراحل التي عاصرها الإمام علي والمسلمون عامة، كانت لدى انتقال الخلافة إلى عثمان. مع احتكار قريش للخلافة، اتسعت الهوة بين المسلمين وتمرَّد بعضهم. لكنّ علي لم يوفّر فرصة لإسداء النصح لعثمان، حقناً للدماء ورأباً للصدع، منها قوله له: «يا عثمان، إنك ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلتَ وقالوا، وزغتَ وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل».

مع احتكار قريش للخلافة، اتسعت الهوة بين المسلمين

إلا أنّ ذلك لم يجدِ نفعاً بعدما أصبح معاوية ومروان قطبي السلطة الحقيقية. قُتل عثمان، وبويع علي في ظروف بالغة السوء. لكنّ علي كان زاهداً بتلك البيعة، ينصح المترددين عليه قائلاً لهم: «لا تفعلوا، فأن أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً». لم ينقضِ على بيعة علي أيام حتى انطلقت دعوات التشكيك بها «ورفع والي الشام (الأموي) قميص عثمان كمؤشر للصراع مع علي (العقبة الأخيرة في وجه تكريس سلطة بني أمية نهائياً)، تحت غطاء الدعوة إلى الاقتصاص من قتلة الخليفة السابق. ووصلت الأمور إلى التواطؤ الضمني بين الأمويين ومحيط عائشة لشن الحرب على علي في البصرة (الجمل)».
هكذا لم يتمكن علي من تحقيق ما كان يطمح إليه، بين منازعات قبائل العراق وظهور الخوارج والحرب عليهم ثم الاستهداف المتكرر له والدسائس التي انتهت بقضائه اغتيالاً. ويعزو المؤلف ذلك إلى رفض الإمام علي التخلّي عن المبادئ الأولى للإسلام، ما سبّب سابقاً اغتيال الخليفة عمر. يومها، قال الإمام علي في رثاء عمر: «قوّم الأود وداوى العمد وخلف الفتنة وأقام السنة». لكنّه، للمفارقة، سيجد الإمام علي مَن يرثيه حين قال الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، سليل عائلة الدهاء السياسي والفتن والحروب: «أزهد الناس في هذه الدنيا هو علي بن أبي طالب».