فارق حاسم يظهر في المعرض المشترك الذي جمع التشكيلية المخضرمة بابنها: هي تلعب فوق مساحة متحقّقة، وهو ما زال يبحث عن هوية
حسين بن حمزة
في المعرض المشترك لإيفيت أشقر (1928) وفرانسوا سرغولوغو (1955) الذي تستضيفه “غاليري جانين ربيز”، نستطيع أن نتناسى بسهولة فكرة أننا في معرض يضمّ أعمال أم وابنها. في النهاية، هو معرض مشترك بين رسامَين وجدا في التجريد عالماً رحباً لترجمة تصوراتهما عن اللوحة، مع فارق يسمح للأم المخضرمة وذات التجربة الطويلة بأن تبدو أكثر استقراراً وتصالحاً مع نبرتها وهواجسها. هناك خبرة واكتهال في أعمالها (9 لوحات). في المقابل، تبدو أعمال الابن (11 لوحة) أكثر قلقاً وبحثاً وشباباً. التجريد نفسه ليس واحداً. هناك غنائية وعذوبة طاغية في زيتيات أشقر، بينما يستخدم سرغولوغو مواد مختلفة تنفي أي غنائية ممكنة.
نبدأ بأعمال أشقر التي تشتغل على إنجاز لوحة وادعة ومطمئنة. الحوارات الذهنية والوجدانية التي تجري عادةً في العمل التجريدي خاضعة هنا لمنطق تشكيلي قوي، لا يسمح لأي طيش لوني بأن يهدِّد صفاء ما نراه. كأن هذه الحوارات مكتومة وساكنة بتأثير الصداقة المتمادية مع عوالم ومساحات خالية من التشخيص. الخلفيات مشغولة بالأزرق الفاتح والأبيض المتّسخ والبنفسجي الخفيف، وهي ألوان باردة ومطفأة تصنع تضاداً حيوياً ومطلوباً مع لطخات ومشحات صارخة وأكثر جلبةً للأحمر والأسود والأصفر. الألوان الصارخة تخلق بؤرة، أو مركز ثقل للوحة وللعين التي تشاهدها. إنها تقنية مجرّبة كثيراً في هذا النوع من التجريد، حيث لا أشكال هندسية ولا اختبارات معمارية. الشعرية والغنائية تستبعدان التأثيرات المباشرة والحَرْفية لكاندنسكي أو موندريان أو بول كلي. لقد ذابت تأثيرات هؤلاء الرواد، وتفتّتت في تجارب أوروبية وأميركية ظهرت في الستينيات والسبعينيات. مع الوقت، صار التجريد عنواناً شاسعاً يصلح لممارسات وطموحات كثيرة ومختلفة. أعمال أشقر متصالحة مع هويتها التجريدية من دون أن

امرأة يلمع بصيص عريها من خلال الأسود المتكاثف حولها
تخوض صراعاً على صعيد الهوية التشكيلية التي باتت محسومة منذ بدايتها المبكرة في نهاية الخمسينيات. لا نجد في جديدها ما يُضاف إلى نبرتها ومناخاتها اللونية المستقرة. تجنب الثرثرة المجانية لا يزال استراتيجية أولى في تجربتها. إنها تركز على لونين أو ثلاثة ألوان، وتدعونا إلى حوار عميق ورائق مع أعمالها.
في المقابل، يتحرّى الابن ممارسات تجريدية أكثر حداثة وراهنية. ما نشاهده في أعماله هو تجريد مرحَّل إلى منطقة مختلفة عن المنطقة التي تشتغل فيها إيفيت أشقر. الصفاء والسكينة يتراجعان هنا لصالح بنية أكثر صخباً وثرثرة. وهذا ما يصنع فارقاً زمنياً وفنياً بين أعمال الأم وابنها. ما يغيب في أعمال الأولى يحضر بوضوح في أعمال الثاني. الأسود والرمادي هما اللونان الطاغيان في شغل سرغولوغو، الذي يستخدم الأحبار الصينية لإضفاء حضور إضافي على هذين اللونين، فضلاً عن زرع لوحاته بأشكال مينيمالية تكسر الصمت الذي تشيعه المساحات الفارغة. في إحدى اللوحات، نجد التجريد منتهكاً بأشكال لطيور ترفرف أو أسماك تعوم حول بقعة سوداء كبيرة.
وفي لوحة أخرى، يدسُّ الرسام بيتاً صغيراً في قلب المساحة اللونية المجرّدة. ثم نجد مشهداً مدينياً من بيروت، قبل أن تتقدّم المدينة إلى مقدمة اللوحة لنرى كورنيش منطقة عين المريسة وبحرها. وفي لوحتين بعنوان Suspension، نلمح امرأة بالكاد يلمع بصيص عريها داخل اللون الأسود المتكاثف حولها. ثم نجد لوحة منجزة بإيعاز مباشر من لوحة مشهورة لبول كلي. كل هذا يعزّز فكرة أن أعمال فرانسوا سرغولوغو لا تزال قلقة وساعية إلى استثمار هويات ومدونات فنية مختلفة، قديمة وحديثة، وتحويلها إلى منجز شخصي. في مكان ما، نشعر بأن هذا هو الفارق الجوهري والحاسم بين شغل الأم والابن. المشترك بينهما هو التجريد. أما الاختلاف، فمتأتٍّ من أن إيفيت أشقر تلعب داخل هوية متحقّقة، بينما فرانسوا سرغولوغو يبحث عن هوية.


حتى 26 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــــ “غاليري جانين ربيز” (الروشة/ بيروت). للاستعلام: 01/868290