أصبحا ثنائياً وثالثهما بيروت التي جعلاها طفلتهما المدللة. أقعدوها «فوق الشجرة»، فباتت كقطةٍ تتلصص: بيروت تتلصص علينا ونحن نضحك ونتبسم. بيروت التي ظلمت نفسها كما ظلم نفسه عادل الذي لعب دوره عبد الحليم حافظ في فيلم «أبي فوق الشجرة» (وفقاً لفؤاد شخصية عرضهما الجديد). بعد «بيروت الطريق الجديدة»، يجدّد يحيى جابر وزياد عيتاني تعاونهما في «بيروت فوق الشجرة». يراهنان على الذاكرة الشعبية وينبشان التاريخ السياسي ليؤججا لحظات طويلة من الضحك. ترتقي أعمال جابر الأخيرة لتجمع بين الكوميديا المنبثقة من الحكايا الشعبية والشخصية، والتاريخ الموثق وغير الموثق. يدهشنا بمرونته التي تحوّل التاريخ إلى مادة للضحك، وذلك مرتبط بقدرته على ربط تفاصيل حبكته ببعضها، معتمداً خفة الظل وربط الخاص بالعام، كأساسين لنقل السهل الممتنع للجمهور.
في «بيروت فوق الشجرة»، نكتشف شخصيةً جديدة يقدمها لنا المخرج والكاتب اللبناني. فؤاد الخياط الأنيق وحفيد نظلت خانوم المدلل، والخبير بأمور النساء: دون جوان بيروت القديمة، بيروت الستينيات وبيروت الأنثى التي تعبت من زيجات باطلة. هكذا يربط جابر الخاص بالعام. خلق شخصية فؤاد المزواج ليحيك لنا على الخشبة تاريخ لبنان السياسي وارتباطاته الخارجية فكان الأتراك أجداداً لنا وكرّت السبحة. في كل مرة يغرم فيها فؤاد بامرأة، كانت سردياته عن علاقته بتلك المرأة تومئ لنا بحقبة سياسية محددة ارتبط فيها لبنان خارجياً ببلد ما. هكذا، كان افتتانه بابنة بائع الفول السوداني السينيغالي الأصل، ذات الأسنان الجميلة التي «تشبه السكاكين» وسيلةً لذكر الاستعمار الفرنسي الذي بنى «مؤسسات الدولة». في مرحلة ما من العرض، سينتقل فؤاد من افتتانه العابر بالسيدات إلى الزواج، فكانت أنطوانيت الكتائبية أول من تزوج، وتلاها في سياق غير متسلسل زواجه من المصرية، والسعودية والفلسطينية وصولاً إلى الزواج السوري الذي دام ثلاثين عاماً.
خلق شخصية فؤاد المزواج ليحيك لنا تاريخ لبنان السياسي وارتباطاته الخارجية

ليس هدف العرض التفكّر العميق في تاريخنا والخروج بخلاصات. يقولها جابر بلا خجل: «اليوم عنا فقط مسرحية للغناء والرقص والضحك». إلا أنه بدا في «بيروت فوق الشجرة» أكثر جرأة في تمرير مواقفه السياسية. الموقف السياسي هنا ظاهر حتى في عنوان العرض «بيروت فوق الشجرة» وفي تعداد مفاتيح المرأة. كيف نريد لبيروت أن تكون؟ أي ثوب وجب تحميلها؟ مفاتيح المرأة هي ذاتها مفاتيح بيروت: «العطر، الحضن، الحلو، تخليها ترقص لحالها، مقص وخيط». بيروت عطرة وحاضنة ومحضونة في آن، جميلة، تجيد الرقص وحيدة، من دون أن يرافقها أحد، تحتاج لمقص وخيط كي لإعادة نسج أوصالها المقطعة. كل تلك الصفات أجادها فؤاد الخياط وكان يستعملها لغواية نسائه. لكن ذلك لم يمنع من طلاقه مرات عديدة.
يتشابه عرض «بيروت فوق الشجرة» في هيكليته مع «بيروت الطريق الجديدة». قُسم كل من العرضين إلى اثنين: كان القسم الأول مدخلاً يركز أكثر على الشخصي ليتسارع الإيقاع في القسم الثاني متطرقاً إلى العام والأمور الأكثر سخونة على المستوى السياسي. تألق زياد عيتاني في دور فؤاد في «بيروت فوق الشجرة» وأصبحت ملكاته التمثيلية أكثر نضجاً: دوزن شخصية «فؤاد» على نبض الشارع البيروتي بكل تفاصيله. أعانه في ذلك طبعاً بحث جابر المتين حول تاريخ المدينة الشعبي والاجتماعي والسياسي. عرّج نص جابر على شخصيات ابتكرها طريفة وذكية في طرحها، لاعباً على التكرار النمطي لفعل أو جملة معينة لكل شخصية: هشام المقرئ ووالدة فؤاد من أبرز تلك الشخصيات المحببة، مع بعض المبالغة في تمرير بعض «القفشات السياسية» والمقاطع الموسيقية التي غناها زياد وكانت أحياناً في غير مكانها وأثرت على درامية العرض اذا ما قورن مع نص «بيروت الطريق الجديدة» الذي كان أكثر تماسكاً في هذا الإطار تحديداً. هذا لن يمنع الجمهور من الضحك المتواصل، فخفة ظل النص تجعلك تشعر أنك بصحبة «قبضايات» مقاهي بيروت الشعبية القديمة. تلك المدينة التي اختفى أثرها ولا نعرف عنها شيئاً (أقله نحن الشباب). البسطة كانت تلةً تطل على مرفأ بيروت، وكانت نظلت تجلس على تلة البسطة وتنظر إلى البواخر، ومدام سرسق تجلس على تلة الأشرفية وتنظر إلى البواخر، وما بينهما طريق الشام. ما يفاجئنا دائماً في عمل جابر قدرته على نقل التفاصيل اليومية والهامشية وموازاتها في سياقات تاريخية مفصلية مع ربط غير متوقع للأحداث.
جعلتنا «بيروت فوق الشجرة» نكتشف الموسيقي والممثل جمال عيد الكريم الذي نقلنا إلى محطات موسيقية متنوعة، وأجاد لعب دور «اللي شاف شي ما شاف شي».
لكن ماذا عن نهاية بيروت التي تعبت من زيجاتها المتعددة؟ الأب في فيلم «أبي فوق الشجرة» يتصالح مع ابنه. الابن يبتعد عن شغفه لنادية لطفي ويعود إلى حبيبته ميرفت أمين. ماذا عن بيروت؟ هل ستتصالح بيروت مع آبائها وأجدادها؟ من أجدر بحب بيروت؟ تصعب الإجابة على أسئلة مماثلة ولكن لا ضير من طرحها بين حينٍ وآخر.

«بيروت فوق الشجرة»: 20:30 مساء كلّ اثنين وخميس ــ «تياترو فردان» (سنتر دون ــ بيروت). للاستعلام: 01/800003 أو 70/693919