محمد شعيرلم يتورّط أمل دنقل في كتابة النثر. لم يكن يريد أن يستهلك النثرُ روحه الشعرية. والمرة الأولى التي كتب فيها نثراً كانت رسالة إلى رئيس تحرير مجلة «الآداب»، الراحل سهيل إدريس. الرسالة التي نشرها صاحب «الحيّ اللاتيني» في كانون الأول (ديسمبر) 1977 بعنوان «جيل بعد جيل»، جاء فيها: «هل أحسب عمري بأعداد مجلة «الآداب». لست وحدي في هذا. جيل كامل ظلت «الآداب» وجبته الشهرية الدسمة، والحبل السريّ الذى يصله بآلام العروبة».
إذاً، كانت الرسائل مدخل «الجنوبي» إلى النثر. هناك رسائل كتبها إلى والدته وشقيقه، موضحاً تطوّرات مرضه. أما رسائله إلى عبلة الرويني رفيقة عمره، فتقدم وجه العاشق. هذه الرسائل غير مؤرخة، لكنّه كتبها إثر خلافات بين العاشقين في بداية علاقتهما. «لو لم أكن أحبك كثيراً، لما تحمّلتُ حساسيتك لحظةً واحدة. تقولين دائماً عني ما أدهش كثيراً عند سماعه. أحياناً أنا ماكر. وأحياناً أنا ذكي. رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك، لأنّ الحبّ وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي...».
ويضيف الشاعر الراحل: «ظللنا فترة طويلة نبحث عن شكل مريح للحب بيننا، ولم نجده في أغلب الأحيان. فما نكاد نلتقي إلا ونتشاجر، وكأنّ بيننا غضباً وعناداً ساطعاً. كنا أشبه بالمتنافرين دائماً نتكسر في الطرقات الممدودة أبعاداً مختلفة، فتجمعنا الأشلاء في استمرار معاند. في لحظة، نحشو العالم في جيوبنا ونلملم كل الأوراق الخضراء، وصوت العصافير والأقلام الملونة، ثم في لحظة أخرى، نمزّق جميع الأوراق ونذبح صوت العصافير، ونكسر جميع الأقلام الملونة والدفاتر. اللاقانون كان هو القانون الوحيد الذي يحكم قلبينا، فعندما نقرّر، لا نفعل شيئاً. وعندما تتساوى الأشياء، نحطم كل شيء ونتعامل بمنطق المفاجأة. هكذا كنّا نحب بأسلوب كتابة القصائد، تكتبنا الحروف من دون أن نحاول رشوتها أو التحايل لوجودها».
عندما كتب قصيدته «مقابلة خاصة مع ابن نوح» أعطاها إلى عبلة قائلاً: «هذه أول قصيدة أكتبها إليك». دُهشت عبلة، فالقصيدة تحمل رؤية سياسية أساساً. يومها أشار إلى المقطع الذي يعنيها: «كأن قلبي الذي نسجته الجروح/ كأن قلبي الذي لعنته الشروح/ يرقدُ الآنَ فوقَ بقايا المدينهْ/ وردةً من عطَنْ/ هادئاً/

« ... نحشو العالم في جيوبنا، ثم (...) نذبح صوت العصافير»

بعد أن قالَ لا للسفينهْ/ وأحبَّ الوطنْ». كان ذلك في عام 1978، حين بدأت سياسات الانفتاح وتصاعدت معركة الدولة مع «المثقفين». وقد رحل مثقفون كثيرون في ما عرف بالتغريبة الكبرى للثقافة المصرية، أو وفق تعبير دنقل «الثقافة المصرية في المنفى». حينها، أرسل له الصحافي وناشر «السفير» البيروتيّة طلال سلمان يدعوه إلى العمل في الجريدة. لكن فكرة السفر شكلت أزمةً نفسيةً لعبلة الرويني. لذا، اختار أمل أن يقول «لا» للسفينة ويحبّ الوطن.
كذلك، توجد في الأوراق الشخصية لأمل دنقل ثلاث رسائل من أدونيس، توضح مدى قوة علاقتهما، وهي مؤرخة في عام 1968 عندما كان «مهيار» رئيساً لتحرير مجلة «مواقف». هذه الرسائل تأكيد لخطأ شعراء السبعينيات الذين قسّموا الشعر إلى فسطاطين: «أدونيسيون» و«دنقليون». وكلّنا نتذكّر جملة أمل الشهيرة التي قالها عام 1983: «أحبّ أدونيس، لكنّي لا أحترم الأدونيسيّين».