في كتابه الصادر عن «المركز الثقافي العربي»، يُبحر الباحث اللبناني خليل أحمد خليل في أفكار «المعلّم» وطروحاته وفلسفته وثورته، وسعيه لتحقيق نظام علماني في لبنان
ريتا فرج
شهادة حياة، سيرة ذاتية لشاهد يتماهى مع موضوعه، مقاربة فلسفية لتاريخ المعلم، كل هذا وغيره نجده في كتاب «مع كمال جنبلاط» (المركز الثقافي العربي). فيه يُبحر الباحث والمؤلف خليل أحمد خليل أبعد مما كانت عليه أطروحته الأولى «ثورة الأمير الحديث»، متماهياً مع «عمود السَّما» ــــ أي كمال جنبلاط كما يصفه الموحدون الدروز ـــــ مفسراً أفكاره وطروحاته وفلسفته.
«عمود السَّما ومعمودية الدم» بهذا العنوان، يشرح الكاتب تعاليم «المعلم» وتوجيهاته، في لقاءات الأربعاء الشهيرة التي كانت تجمعه به هو وغيره من الاشتراكيين التقدميين، داعياً إياهم إلى المحافظة على لبنان وقائلاً لهم: «لا تمزقوا لبنان قميص السيد، فالمسيح عقل الأمم لا الحجارة التي رصفتم بها قلوبكم وقبوركم». وبلغة يتداخل فيها الذاتي بالسياسي، يروي خليل بعض المحطات التي مرت بها الجنبلاطية السياسية، وكيفية انتقالها من وريث إلى وريث. وفي هذا السياق، يفنِّد الكاتب بعض خلاصاته السياسية التي أدرجت في ميثاق «الحزب التقدمي الاشتراكي» على إيقاع الحكمة القديمة والفلسفة السياسية الحديثة، «فالمعلم كان زعيماً مزدوجاً حديثاً/ تقليدياً يخاطب الخاصة بفكره والعامة بخدماته».
كان الرفيق كمال بك كالرائي والشوّاف، يهجس باكراً بالمتغيرات التي ستحدث في المنطقة. هنا، يستحضر خليل حواراً دار بينه وبين المعلم تمحور حول تداعيات هزيمة 1967. يومها، قال جنبلاط: «الهزيمة هذه أشد من نكبة 1948، هي ليست نكسة كما يُقال تخفيفاً من وطأتها. الردّ عليها سيكون بمقاومة عربية ضارية وطويلة جداً». فهل هي مصادفة تاريخية أن تتقاطع رؤيته تلك مع المشهد العربي الراهن؟ وما معنى المد الإسلامي المقاوم لإسرائيل بعدما تراخت حركات التحرر اليسارية والقومية؟ طبعاً لو لم يستشهد «عمود السّما» باكراً، لقدَّم جوابه عن تساؤلنا. لكن موته الذي شعر بدنوّه في 9 آذار (مارس) 1977، منعه من استشراف تحولات الشرق الأوسط الملتهب وانعكاساتها على لبنان.
في قراءته لحياة كمال جنبلاط السياسية، يروي الكاتب أهم الملامح التي طبعت نهجه مع جماعته والجماعات اللبنانية الأخرى، وتحديداً الجنوب المحروم الذي أمده بكل ما أوتي من نفوذ لإخراجه من هذه البوتقة عبر إنشائه المدارس وإرسال النخب العلمية لمتابعة دراستهم في الخارج. برأيه، التقدمية إنما هي ثقافة تفاعل وتشارُك. وعلى الضفة الأخرى، يسرد الكاتب علاقة معلمه مع بعض زعماء لبنان أمثال رشيد أفندي الذي كان يخاطبه بـ«رشو»، وكميل شمعون الذي أسقطه في انتخابات الـ1960 وفؤاد شهاب الذي تحالف معه أربع سنوات قبل أن يفترقا، حين أعلن الجنرال الرئيس عن عدم ثقته بالسياسيّين على خلفية التمديد لولاية ثانية.
من محرابه، انتقد كمال جنبلاط تجربة العديد من القادة اللبنانيين، لكنه في المقابل كان يهجس بإنشاء نظام مساواتي

استشرف ولادة المقاومة الإسلامية ضدّ إسرائيل

علماني، سرعان ما انطفأ بعد الموت الفجائي لجمال عبد الناصر. لذلك، كما يشير الكاتب، بدأ يعد العدة مع اليسار اللبناني، والثورة الفلسطينية لإنجاز مشروعه الذي أوصله إلى الشهادة، حين أدرك «أن جسده سيقدم قرباناً على مذبح الوطن، متماهياً مع غاندي وسقراط والمسيح».
بعد رحلته في اكتناه مسيرة جنبلاط السياسية، ينتقل الكاتب إلى الدائرة الأخرى، كاشفاً عن شذرات ذات معلمه، أو ما يسميه «ذات الذات»، العابقة بروحية أدب الحياة، في السلوك والمأكل والعلاقة مع الآخر رغم عدائيته، إلى درجة أنّه «قدم نفسه أضحية دون أن يدري على مائدة بناء الدولة الحديثة». في هذه اللحظة التاريخية، يستحضر خليل كيف أنه بعد عودة جنبلاط من جولة على الدول العربية، أخبره الحبيب الشطي وزير الخارجية التونسي في عهد بورقيبة، عن قرار باغتيال جسده، فأجابه «المعلّم»: «مسكين باسكال، ظنّ نفسه قصبةً في رياح الكون. أما نحن فسنديان وصخر، ولسنا وحدنا في العالم».
على حدود الأفكار الفلسفية والوجودية والسياسية وتحولاتها، رسم الكاتب حيوات كمال جنبلاط الذي شاركه أهم محطاتها. وفي إشراقه الأخير على درب «دير دوريت» حيث اغتيل على مدخل البلدة في 16 آذار (مارس) 1977، يخط الكاتب انتقال معلمه إلى شاطئ الأبدية، تاركاً للأجيال العابرة إرثاً سياسياً وثقافياً، على إيقاع الفناء في العقل الكلي.