أسئلة الهوية والوطن والمنفى والانتماء، تطرحها الفنانة الفلسطينيّة الشابة في نص من تأليفها وتمثيلها، أخرجه ستيرجيس وارنر على خشبة «مسرح الشارع الرابع» في مانهاتن
نيويورك ــ عماد خشان
للشهر الثاني على التوالي، تتواصل في نيويورك عروض «فلسطين» للكاتبة والممثلة نجلا سعيد، ابنة الراحل إدوار سعيد. المسرحية التي تستمر حتى 3 نيسان (أبريل)، تقدم على خشبة «مسرح الشارع الرابع» في مانهاتن، حيث معظم الحضور من الأميركيين المهتمين بالمسرح والشرق الأوسط في آن ومن العرب والجاليات الآسيوية.
ويأتي العرض بعد أربعة أعوام من العمل والتطوير على مسرحية بدأت نصاً لا يتعدى ربع ساعة تتحدث فيه نجلا عن طفولتها وحياتها كأميركية من أصل عربي وكابنة «أشهر فلسطيني في أميركا» كما تقول نجلا في المسرحية، معقِّبةً «وإن كنت لا أعرف معنى تلك العبارة تماماً».
بدأت نجلا العمل على النص في خريف 2006 بعد عودتها من لبنان حيث وجدت نفسها محاصرة خلال عدوان تموز. هناك، عايشت أهوال الحرب الإسرائيلية ورعب الطائرات. ومع أنّها اختبرت الحرب في لبنان مع عائلتها خلال زيارتها لبنان في عام 1983، إلا أنّها في حرب تموز اكتشفت أنّه يصعب حتى لشخص كغاندي أن يكون متسامحاً مع إسرائيل التي كانت طائراتها تملأ الأجواء بهديرها وقنابلها. بين تلك الحرب واعتداءات أيلول 2001، وجدت نجلا ذاتها وصارت أكثر وعياً والتزاماً بهويتها العربية وبقضية شعبها.
المسرحية التي كتبتها نجلا وأخرجها ستيرجيس وارنر تحكي رحلتها من فتاة نشأت في أحد أرقى الأحياء اليهودية في مانهاتن، حيث كان معظم زملائها من أبناء اليهود والبروتستانت، وحيث كانت تصر على أن يعدّها والداها ايرلندية لا عربية! بأسلوب بسيط وساحر، تتلو نجلا قصتها الشخصية التي تمتلئ بتجارب يمكن أي إنسان أن يتماهى معها. حتى إنّ أداء نجلا على الخشبة يُشبه حديثاً حميماً من صديق إلى صديق، يخبره ما جرى معه منذ التقيا حتى الآن. وفي ذلك طزاجة وخصوصية ومباشرة في الأداء، تجعل كل مشاهد يشعر كأن الفتاة التي تقف أمامه على خشبة المسرح البسيطة والخالية، تروي حكايتها له وحده. وهي في ذلك تذكِّر بأداء فانيسا ريدغريف في مسرحية «سنة الأفكار الساحرة» التي كتبتها الروائية الأميركية جون ديديون عن وفاة زوجها المفاجئة ومرض ابنتها العضال.
عبر أداء نجلا، تشعر بذلك التأرجح بين اليأس والرجاء حين علمت الأسرة بإصابة إدوار سعيد بسرطان الدم ومعركة البقاء التي استمرّت 11 عاماً انتهت بوفاة المفكر الفلسطيني البارز. المسرحية تشبه أيضاً فيلم ميشيل خليفي الأخير «زنديق». كلاهما يطرح أسئلة أكثر مما يقدّم إجابات: أسئلة الهوية والوطن والمنفى والانتماء. أسئلة خجولة أو ملؤها الذنب تجعلنا ندرك أنّه ما من فلسطيني يشعر بالارتياح أو الانتماء أينما كان. ولعل ذلك هو من الأسباب التي دفعت إدوار سعيد إلى اختيار «خارج المكان» عنواناً لمذكراته بنسختها العربية. مع أنّه كان من الأدق ترجمتها إلى «اللامنتمي» أو «الغريب» لأنّ المصطلح الإنكليزي الذي اختاره سعيد عنواناً لكتابه يعني الشخص الذي يشعر بعدم الألفة مع محيطه.
بالسخرية السوداء تجذب الحضور إلى قصتها الذاتية
مسرحية نجلا سعيد ما هي إلا نوع من المذكرات عن طفولتها وشبابها في مكان يسمَّى وطنها. لكنها كأولاد كل المهاجرين الجدد، أرادت «لأسئلة الهوية أن تختفي» علها تشعر بألفة أكثر للمكان. ولما لم يحصل ذلك، لجأت إلى التوقف عن الطعام وأصيبت بمرض فقدان الشهية (الأنوركسيا) في ما تصفه بأنّه محاولة من جسدها لأن يختفي. لكن أسئلة الهوية هي من النوع الذي لا يختفي، فكان عليها مواجهة شياطينها تماماً كما فعل أبوها وكما فعل ميشيل خليفي في «زنديق».
العرض الذي يمتد ساعتين، تظلّ فيه الإضاءة نفسها وما يتغير هو الموسيقى المرافقة التي تتلوّن مع تغيّر مزاج الشخصية وانتقالها من قصة إلى قصة. ومن عناصر قوة النص، أنه ينقل المستمع إلى داخل منزل إدوار سعيد. لقد أحسنت نجلا استخدام ذلك العنصر بحيث لا تصبح المسرحية عن أبيها فقط، ولم تبدُ كأنها تتسلق على شهرة والدها. بل إنّ كون إدوار سعيد والدها جاء كتفصيل في حياة امرأة عربية مسيحية من أب فلسطيني وأم لبنانية. فتاة من الطبقة الوسطى تعيش في حي يهودي في نيويورك قبل أحداث أيلول وبعدها. امرأة تحاول أن تجد نفسها وهويتها أو تصنع لنفسها اسماً وحيزاً من الوجود، خارج ظلّ أبيها العملاق. إنّها مسرحية الخروج من ذلك الظل والوصول إلى بر الأمان مع الذات.
إضافة إلى ذلك الجانب الشخصي من المسرحية، هناك الجانب السياسي الذي تفرضه هوية نجلا التي تربت كبنت «يهودية»، وكانت في طفولتها تفضل أن تكون «ايرلندية». وهي أيضاً تلك الفتاة التي يعود أصلها الى بلد يسمّيه أصدقاؤها «إسرائيل». ثم وجدت نفسها فجأة في زيارة مع أسرتها إلى الضفة الغربية فغزة، حيث صدمتها ظروف الحياة وشعرت بالخجل بملابسها الأنيقة التي وقفت فيها تنظر إلى معاناة أهل غزة المخاصرين بكلّ ذلك البؤس والموت البطيء. ومع أنها تعشق لبنان وشواطئ بيروت والسهرات اللبنانية، فإنّ ما رأته في فلسطين أدمى روحها وأيقظها على عالم لم تدرك وجوده رغم كل المناخ السياسي الذي خيّم على وجودها في بيت أهلها. ثم جاءت أحداث أيلول 2001 لتضعها أمام واقع جديد يتخذ موقفاً معادياً من هويتها الأصلية.
عندها، قررت أن تصبح عربية ـــــ أميركية. وصار ذلك الخط القصير بين الكلمتين في غاية الأهمية بالنسبة إليها. صار ذلك الخط بين كلمة «عربية» و«أميركية» هويتها. وانطلقت في رحلة إيجاد نفسها عبر المسرح والكوميديا. ونجلا هي فعلاً فنانة كوميدية موهوبة. وفي عرضها «فلسطين»، تستعمل تلك السخرية السوداء على الطريقة العربية كوسيلة فعالة لإبقاء الحضور منجذباً إلى قصتها الفردية والذاتية. وتكتنف طريقة أدائها الكثير من عناصر الحكواتي القديم، ما عدا أسلوب المبالغة لسبب بسيط، أنّ القصة تحوي الكثير من الحزن والخوف والموت والضياع.
وهناك فلسطين، تلك الكلمة التي كلما سمعتها نجلا، بكت. وكلما سمعتها، سمعت صوت أبيها. فلسطين التي ـــــ كأبيها ـــــ لا تشعر بالانتماء إليها كوطن بل كقضية حقّ وعدالة. وهي في ذلك تشبه معظم حضور المسرحية من الذين يؤيدون العدالة في قضية فلسطين، ولا تربطهم علاقة حسيّة ملموسة بالوطن. مع نهاية العرض، بدا أن قلب نجلا مع لبنان: فرغم الحروب المتوالية، ظل هذا البلد في ذهنها مرادفاً للفرح والضحك والأوقات الجميلة. أما فلسطين، فتظلّ في روح نجلا ودموعها وذكرياتها عن أبيها، وطناً ضاع وبيتاً في القدس ولد فيه إدوار سعيد ورفض أن يدخله حين زار المدينة، بل وقف يتأمله من الخارج بصمت.
ومن الواضح في «فلسطين» نجلا، أنّ إرث إدوار سعيد حيّ فيها. رغم كل ما ترويه عن تاريخ وطنها المأسوي، وكل ما شاهدته من حروب ودمار على يد إسرائيل، فإنها لم تتلطخ بالكره أو الحقد. بل إنّها تسعى بالكلمة والبسمة والمسرح إلى أن تروي قصة شعبها، لأنّها ولو أنها تحيا في ذلك الخط القصير الذي يجمع فلسطينيتها بأميركيتها كما قالت، ستظل تبكي، كلما سمعت كلمة فلسطين.


سابقة «راشيل كوري»

في 2006، تحت ضغط الجماعات المتعاطفة مع إسرائيل في نيويورك، أُلغيت عروض «اسمي راشيل كوري» (إخراج ألان ريكمان)... فهل جاء تقديم «فلسطين» على المسرح نفسه، نوعاً من الاعتذار؟ المؤكد أنّ مسرحية نجلا سعيد سلكت طريقاً أخرى، إذ قُدمت في 2006. وبعد عام، عملت مع ستيرجيس وارنر ضمن «ورشة نيويورك للمسرح» للعمل على تطوير النص حتى بلغ شكله النهائي.