معرض الكتاب الرابع عشر: حصيلة إيجابيّة، ولكن

بوادر مشجّعة عدّة سجّلها «معرض الرياض الدولي للكتاب»، تؤكّد مسار التطوّر البطيء الذي تعوقه القوى المحافظة، وتحاصره مؤسسة رسميّة تخاف من الثقافة

الرياض ـــ بدر الإبراهيم
تأكّدت أهمية معرض الكتاب في الرياض هذه السنة. المعرض الأضخم عربياً من حيث الإقبال والقوة الشرائية، بات حدثاً سنوياً يحرّك المياه الراكدة في المملكة، ثقافياً واجتماعياً، ويعيد التذكير بحقائق باتت مكرّسة في المشهد السعودي. أولى الحقائق التي كرّسها المعرض استمرار «معركة الاختلاط» في السعودية. هذه السنة، خُصّصت ثلاثة أيامٍ من المعرض للرجال وتركت السبعة الباقية مفتوحة من دون فصلٍ بين الجنسين، ما أثار حفيظة السلفيين، فنشروا شائعة عبر الإنترنت تفيد بأن وزير الداخلية ألغى القرار، لكن الشائعة كُذّبت وحُجب الموقع الذي نشرها. حصول الاختلاط بعدما كان ممنوعاً هو حدثٌ بحد ذاته. النقاش في هذه الظاهرة أصبح طاغياً منذ افتتاح جامعة «كاوست» بنظامها المختلط. وبدا أن هناك إرادة سياسية لتكريس الاختلاط واقعاً في المجتمع السعودي، وقد ركبت موجتها مجموعةٌ من المثقفين الليبراليين وبعض الشيوخ المراهنين على التنوير، في وجه قوى تقليدية محافظة تعارض هذا الأمر بشراسة تصل إلى حد إصدار فتاوى تهدر دم مروّجي الاختلاط.
التظاهرة المهمّة التي اختُتمت أخيراً، بدت إذاً وسيلة للتغيير الثقافي ـــــ ضمن إرادة السلطة ـــــ السياسية في قضية الاختلاط تحديداً. وقد جاءت الدورة الأخيرة لتكرّس عجز القوى المحافظة عن الحركة في وجود إرادة سياسية قوية، ما جعل الحدث يمر من دون تدخل الهيئة.
في ما عدا ذلك، يبقى «معرض الرياض» ساحة صراع بين التيارات الفكرية المختلفة، كما بين الرقابة وجمهور القراء. وقد عانى التيار السلفي فقدانه السيطرة على مصادر المعلومات، فيما كان سابقاً يحدّد ما تجوز أو لا تجوز قراءته. لكن لزمن الثورة المعلوماتية حساباته المختلفة: فالمرفوض صار يدخل بقوة، ولم يعد من خيارٍ للمواجهة سوى التنفيس.
تنفيس التيار السلفي عن غضبه جرى بمساعدة إدارة المعرض ممثلةً بوزارة الثقافة والإعلام. هذه الإدارة حرصت على الاستجابة لمعظم الشكاوى بشأن الكتب الموجودة في المعرض. هكذا، سُحِبت كتب كثيرة من دور النشر المختلفة، علماً بأن بعض العناوين المصادرة مفسوحٌ من وزارة الثقافة والإعلام! وأُغلق جناح «منشورات الجمل» لأسبابٍ مجهولة قبل إعادة فتحه ثانيةً، فيما صودرت رواية «ترمي بشرر» لعبده خال الفائزة بـ«بوكر» هذا العام... قبل أن تعاد بعد «التدقيق» في مضمونها.
كل هذا حدث بينما كان وزير الثقافة والإعلام يتحدث بكل ثقة عن حرية النشر في المعرض... وضيق حدود المنع، ويستغرب عدم إحضار الناشر لكتب تركي الحمد، متجاهلاً أن كتباً أقل صودرت ومنعت، واضطر بعض العارضين إلى بيع كتب معينة «تحت الطاولة» تحت إلحاح الجمهور. وما حدث يكشف استمرار الوزارة في سياسة الفرقعة الإعلامية، وهي تزيد من تدهور الوضع الثقافي في البلد.
حقيقة أخرى أكدها المعرض أن شريحة مهمة من السعوديين والسعوديات تقبل على اقتناء الكتب. رغم سطوة ثقافة الصورة والقيم الاستهلاكية، فإن الإقبال كان كبيراً، وتوزع الزوار بين راغبين في اقتناء الكتب وآخرين جاؤوا للمشاهدة، وربما اقتناء بعض الكتب «الممنوعة»... فالمنع بات وسيلة لاجتذاب شريحة أوسع من دائرة القراء التقليديين.

زاد الإقبال على كتب الفلسفة في بلدٍ يحرِّم تدريس هذه المادة بدعوى أنها زندقة
ومن نافل القول إن عملية الإقبال هذه من النقاط الإيجابيّة التي تسجّل للمعرض. فهي من بوادر الحيويّة في مجتمع حرص صنّاع ثقافته على غلق أبوابه أمام الأفكار والآراء المختلفة، وتكوين وعيه قسرياً من خلال فكرٍ جامد ومنغلق، وخصوصاً أنّ الإقبال هذه السنة زاد على كتب الفلسفة في بلدٍ يحرِّم تدريس هذه المادة في الجامعات بدعوى أنها زندقة. كذلك، اتضح حجم الإقبال النسائي على شراء الكتب المتنوعة، ما يكسر ثقافة تدجين المرأة، وتطويقها التي سادت أزمنة طويلة. وكلّها إشارات إلى حراك اجتماعي وثقافي واضح، وزيادة في مستوى الوعي تجلت في كسر التابوهات القديمة، وإن لم تصل إلى نتائج كبيرة بعد... لهذه الأسباب وسواها ينظر المثقفون السعوديّون إلى معرض الكتاب كعنصر تغيير متواصل، تكرّسه ظروف داخلية وخارجية مختلفة، ويواجه في المقابل معارضة شرسة من القوى المحافظة وأجهزة الرقابة العقيمة. وتلك المعارضة تحاصر المعرض ــــ من خلال مصادرة الكتب، وتسطيح الأنشطة الثقافية المصاحبة ــــ لكنها لا تمنع الحركة فيه ولا تحسم الصراع عليه.
يبقى أنّ وزارة الثقافة والإعلام فشلت مرةً جديدة في الإفادة من المعرض لتفعيل النشاط الثقافي، بل إنّها نجحت مجدداً في قتل أي حراك في المهد، إسهاماً في دفع الوضع الثقافي في البلد إلى الأسوأ. وقد أكّد المعرض، رغم إيجابيّاته الكثيرة، أن لهذه الوزارة، حتى إشعار آخر، مهمة أساسية ووحيدة: تجميد الثقافة!


لبنان الحاضر الأبرز

انطلقت الدورة الـ14 من المعرض في 4 آذار (مارس)، واستمرّت عشرة أيام بمشاركة أكثر من 650 دار نشر من 30 دولة شاركت بأكثر من 250 ألف عنوان باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية. وقد حظيت دور النشر اللبنانية تحديداً بحصّة الأسد من الإقبال، لكونها تقدّم فرصةً للحصول على عناوين غير متوافرة في السوق المحلية. وحضر السنغال هذا العام كضيف شرف الدورة، إضافة إلى مشاركة واسعة من دور النشر من مصر ولبنان وسوريا والأردن وسائر الدول العربية، إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسويد وقبرص وألمانيا والهند واليابان وتركيا وإيران.


مغامرات مهرّب كتُب في مطار الرياض



يتحدث وزير الثقافة والإعلام السعودي عبد العزيز خوجة بثقةٍ مُستَفزّة، ويؤكد أموراً كثيرة يدحضها الواقع. ألم يعلن على الملأ في برنامج «واجه الصحافة» مع داوود الشريان («العربية»)، أن أي شخص يحضر كتباً إلى المنافذ الحدودية، لا يفتش ولا تصادر كتبه؟ تمنيت أن يكون كلام معالي الوزير صحيحاً. غير أن تجربتي الأخيرة وضعتني أمام الواقع البائس الذي يصرّ على طمسه. كنت عائداً من بيروت إلى مطار الرياض، وقد ارتكبت جنحة خطيرة، إذ أحضرت معي مجموعة كتب. توقعت أن يمر الأمر. غير أن بعض «الغيارى في الجمارك كان لهم رأي آخر. ضبطوني بالجرم المشهود: حيازة كتب! أوقفوني، في انتظار مسؤول قسم الإعلام في المطار لفحص الكتب، والتأكد بأنها «لا تخرّب العقل».
حاولت إقناعهم بأن الوزير أكّد أنّ المواطن لا يفتش ولا تصادر كتبه، لكنهم لم يوافقوا على إخراجي من قفصهم المشؤوم، وانتظرت ساعة ونصف، حتى تكرَّم مسؤول الإعلام بالمجيء. خلال ذلك، انتهك مفتشو الجمارك الكتب وتصفحوها من دون أن يفهموا كلمة. تفحّصوها وهم يقولون: لا نفهم. مسؤول الإعلام يفهم أكثر. يعرف الكتاب «المشبوه» من النظرة الأولى. انتظرت انتظار الحرامية والمجرمين. وبعدما سلّط المسؤول نظرة الخبير على الكتب، قرّر السماح بمعظمها، واحتجز أربعة «فقط»: ثلاثة لي، ورابع أوصاني عليه صديق. قرّرت مناقشته في مصادرة كتاب صقر أبو فخر عن أنيس النقاش. قال لي بلهجة حازمة: «النقّاش معروف عندنا، ومواقفه معروفة، ولي تحفظات عليه. هل تريد أن أشرح أكثر؟» قلت: «لكن الكتاب يتكلم عن سيرته مع الثورة الفلسطينية». احتدّ أكثر: «قلت لك إنّ مواقفه معروفة. هو يدافع عن كل

صادروا كتاباً عن أنيس النقّاش لأنّ «مواقفه معروفة»
مقاومة، هل تريد تفاصيل أكثر؟» قلت: «لا داعي. خلّصنا بس!».
أعطاني ورقة لأراجعه في الكتب المصادرة. قلت له إن هذه السياسة عفا عليها الزمن، وذكّرته بتصريحات الوزير، فوافق وأعلن ــ بثقة تشابه ثقة معالي الوزير ـ أن الوزارة باتت أكثر تسامحاً، وطمأنني إلى أنه يُمكن السماح بالكتب الأربعة بعد فحصها. وأضاف أنه لو حصل الموقف نفسه قبل سنوات، لما دخلت هذه الكتب أساساً. كدتُ أهنئه: يا له من تطور مفرح!
هذه الحادثة التي وقعت لـ «مهرّب» عادي مثلي، أوردتها كي أوضح لمعالي الوزير أن الـ«فايسبوك» والفرقعة الإعلامية لا تصنع مناخاً ثقافياً صحياً، بل الشجاعة في اتخاذ القرار ومراجعة الأخطاء. آه، هناك تفصيل كدت أنساه. في مكتب الجمارك، وقعتُ على «حراسة الفضيلة»، هذا الكتيّب الدعوي السلفي من العناوين المسموحة جداً في المملكة. وهو لمن لا يعرفه يتحدّث عن وجوب فصل الأولاد عن البنات في الروضة منعاً للفتنة... هل ندرك يوماً معنى كلمة «تخريب العقل»؟
بدر...